الثقافة اللغوية الخفية في حوار وترجمات الأفلام | آراء
18/1/2023–|آخر تحديث: 18/1/202302:47 PM (مكة المكرمة)
تحاول الشقيقتان السوريتان يسرا وسارة مساعدة أقرانهما من اللاجئين على متن قارب صغير في بحر إيجه بين تركيا واليونان. تسألان باللغة الإنجليزية إن كان هناك من يعرف السباحة، فيرفع عدد منهم أيديهم، فتطلبان أن يتكفل كل واحد منهم بمساعدة شخص لا يعرف السباحة. وفجأة، يتعطل محرك القارب ويتسرب الماء إلى داخل القارب ويدب الخوف في قلوب الجميع من رجال ونساء وأطفال، فتسألان باللغة العربية أحد الركاب لإصلاحه.
بعدئذ تضطر الفتاتان إلى السباحة بجوار القارب حتى وصلتا أخيرا بصعوبة إلى شاطئ جزيرة ليسبوس اليونانية في فيلم “السباحتان” للمخرجة المصرية البريطانية سالي الحسيني (عام 2022)، من إنتاج دولي مشترك، الذي يعرض على شبكة “نتفليكس” (Netflix).
تتحدث الشقيقتان السوريتان في الفيلم باللغة العربية تارة وبالإنجليزية تارة أخرى. فقد كان الحوار في أثناء مشاهد وجودهما في سوريا بالعربية ليتغير بعد ذلك في النصف الثاني في الفيلم للغة الإنجليزية. أضفى هذا التغير في الحوار نوعا من المصداقية على الفيلم من الناحية الفنية للمشاهد الذي يعرف العربية والإنجليزية، على اعتبار أنه تحوّل لغوي مناسب لبيئة المكان، كما أنه كسر لنمط وحدة الحوار اللغوية الغالبية في مثل هذا النوع من الأفلام التي تنحو إلى لغة واحدة إما عربية أو إنجليزية على مدار الفيلم.
أما بالنسبة للمشاهد الذي لا يعرف سوى إحدى هاتين اللغتين، فقد يبدو الأمر فيه نوع من التشتيت.
المختلف في هذا العمل تحديدا هو أن إحدى الممثلات، منال العيسى اللبنانية الفرنسية، انتقدت العمل بشدة واتهمت المنتجين بالضغط عليها من أجل التحدث بالإنجليزية لأنها “أروع” في الحوار. الأمر الذي أثار استهجانها واعتبرته نوعا من الإهانة وعدم الاحترام، منتقدة الاستخدام المفرط للغة الإنجليزية في الفيلم وغلبة السطحية على الحوار ونزوعه نحو الصورة النمطية أو “الاستشراقية”.
تصريحات العيسى جاءت مفاجئة عن أحد الأفلام الناجحة الذي أشادت به هيئات دولية، مثل الأمم المتحدة، تسلط الضوء على مأساة اللاجئين. ويمكن أن توضع في خانة الرأي الشخصي أو المهني. لكنها كاشفة عن أحد الجوانب الثقافية الكامنة لاستخدام اللغة في حوارات وترجمات الأفلام.
لا يتسامح موزعو الأفلام في دول المغرب العربي، مثل تونس والمغرب، مع دخول اللغة الإنجليزية محمولة على أفلام هوليود في أفلام السينما أو القنوات المحلية. ويشترطون حتى الآن أن يكون الحوار مدبلجا بالكامل للغة الفرنسية بلا أي فرصة لظهور الصوت الإنجليزي، مع كتابة الترجمة أسفل الشاشة بالعربية
ترجمة حوار الممثلين
وحتى نستوعب حجم القضية، فينبغي الإشارة بداية إلى أن حديث الممثلين باللغة الإنجليزية في فيلم عن العرب ينتج في الغرب هو الأساس، حتى وإن كان الموضوع عربيا صرفا، مثل فيلم “لورانس العرب” الشهير من إخراج ديفيد لين عام 1962 وبطولة الممثل الراحل عمر الشريف. واستمر هذا التقليد حتى يومنا هذا عند مشاركة ممثلين عرب في أفلام عالمية وهم يجسدون أدوارا عربية، مثل الممثل السوري غسان مسعود والمصري عمرو واكد. والأمر ليس ضرورة فنية بقدر ما هو عرف استقر في صناعة السينما الغربية وحتى العربية أن يكون الفيلم الغربي هو الأساس والمترجم عنه، وأن يكون العربي هو المترجم له في حال تم عرضه على جمهور عربي.
الوحيد الذي أدرك هذه المعادلة وأراد كسرها من دون أن يخسر إنتاجيا وجماهيرا هو المخرج الراحل مصطفى العقاد، حين أخرج فيلمه الشهير “الرسالة” في نسختين واحدة بها ممثلين أجانب وأخرى بممثلين عرب لتكتمل العناصر الفنية للمشاهد العربي والغربي ويتمتعان بالقدر ذاته من الوصول للفيلم لغويا وبصريا. وذلك لأن الترجمة المكتوبة تنتقص قليلا من تركيز المُشاهد الذي يتشتت بين قراءة نص الترجمة ومتابعة مشاهد الفيلم والتتابع البصري للمَشاهد. ويقدر البعض أن المُشاهد قد يفقد نحو 50% من تركيزه في الفيلم عند الجمع بين قراءة الترجمة والمشاهدة.
الحجة الجاهزة لمثل هذا السلوك الإنتاجي هو مناسبة اللغة للجمهور المستهدف. وقد بدأت هذه المشاكل في البروز مؤخرا في موضوعات الأفلام ذات الإنتاج المشترك التي تتناول قضايا عربية صرفة بمشاركة ممثلين عرب وأجانب، وذلك على اعتبار أن الإنتاج والجمهور في هذا الحالة متعدد الجنسيات، والأولى هو أن يتحدث كل ممثل بلغة جنسيته في الفيلم حتى لا تكون هناك أفضلية لثقافة أو لغة على حساب أخرى، إذا لم يكن في الأمر ضرورة فنية أو إنتاجية. ولكن هذا النقاش الإنتاجي غائب للأسف بسبب ضعف النقاش حول قضايا الإنتاج السينمائي ومستجداته.
ترجمة الأفلام
لا تنفصل هذه الثقافة اللغوية عن ترجمة الأفلام نفسها عندما تعرض في بلد غير بلد الإنتاج، وذلك لأن ترجمة الأفلام تختلف عن ترجمة أي عمل أدبي أو فني آخر، لكونها لا تمس في النهاية جوهر العمل مثل ترجمة النص الروائي الذي تنقله من ثقافة لثقافة مختلفة. فالفيلم المترجم ملتزم بالتتابع البصري للمشاهد وهو السيناريو وتطال الترجمة الحوار سواء كانت الترجمة مكتوبة أسفل الشاشة أو منطوقة عن طريق الدوبلاج، أي أن الفيلم يحافظ على شخصيته الثقافية وهويته مع عملية الترجمة تلك.
وهنا وجه آخر للثقافة اللغوية الخفية الكامنة في الأفلام، لأن الأمر أعقد من مجرد ترجمة، فعلى سبيل المثال، لا يتسامح موزعو الأفلام في دول المغرب العربي، مثل تونس والمغرب، مع دخول اللغة الإنجليزية محمولة على أفلام هوليود في أفلام السينما أو القنوات المحلية. ويشترطون حتى الآن أن يكون الحوار مدبلجا للكامل للغة الفرنسية بلا أي فرصة لظهور الصوت الإنجليزي، مع كتابة الترجمة أسفل الشاشة بالعربية أو الفرنسية، وذلك لتقليل الحضور الثقافي للغة الإنجليزية.
غني عن القول إن العالم العربي يشاهد في دور السينما أفلاما مترجمة من اللغات الإنجليزية والفرنسية تحديدا والمشاهد الغربي في بريطانيا أو الولايات المتحدة لا يشاهد أعمالا مترجمة في دور السينما الخاصة به. والأمر ليس متعلقا بجودة العمل السينمائي بقدر ما هو متعلق بأن عملية الترجمة السينمائية تسير في اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق وليس العكس. ومع تطور منصات العرض والقنوات التليفزيونية، تعددت أساليب وحلول الترجمة تقنيا، لكنها ستزيد من المشاكل الثقافية للترجمة وما تحمله من مضامين وانحيازات، لأنها نقلت عددا من القضايا الثقافية والفنية من نقاشات المتخصصين إلى الفضاء العام.