آخر الباباوات المحافظين.. رحلة البابا بنديكتوس من الإصلاح إلى اليمين
شكّل البابا “بنديكتوس” السادس عشر (جوزيف راتزينغر)، بابا الكنيسة الكاثوليكية بين عامي 2005 و2013، وبابا الفاتيكان الشرفي حتى وفاته الأسبوع الماضي، حالة فريدة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية المعاصر، فقد هزّت استقالته عام 2013، ليس أروقة القصر الرسولي فحسب، بل العالم أجمع، فالبابا الذي رحل عن العالم قبل أيام كان أول من تقدَّم باستقالته من الباباوية منذ عام 1415، حين نشبت أزمة تنحّى على إثرها “غريغوريوس” الثاني عشر إبّان ما عُرِف بالانشقاق الغربي الكبير، حين وقع النزاع على منصب الحَبْر الأعظم بين بابا روما والباباوات في مدينة أڤينيون بجنوب فرنسا.
غير أن “جوزيف راتزينغر”، الذي حفلت باباويته القصيرة بالكثير من الصدامات مع أطياف عدة، أكّد أن استقالته أتت لأسباب صحية، في حين كشف الصحافي الاستقصائي “مارك دود”(1) بعد زيارته للكاردينال “فرانسيس أرينزيه”، أحد أبرز المطلعين على تفاصيل ما جرى في القصر الرسولي، أن البابا اجتمع بالكرادلة ليخبرهم برغبته في الاستقالة مسبقا، وذلك حين ألقت تسريبات لوثائق سرية بظلالها على استقرار وريث القديس بطرس، الذي فوجئ بأن خادمه الخاص “باولو غابرييلي” سرّب الكثير من الوثائق بشكل سمح لأحد الصحافيين بتأليف كتاب عنها. وقد قال أرينزيه إن غابرييلي قضى 3 أشهر عقوبة بالسجن بتهمة السرقة استلزمت أن يعفو البابا عنه. ولم يمنع العفو من فتح تحقيق فيما جرى، حيث قدّم 3 كرادلة تقريرا مُطوّلا عن الواقعة (سُرِّبت بعض أجزائه) أوقع الفاتيكان في سلسلة فضائح، علاوة على أزمات مالية أخرى تتعلق ببنك الفاتيكان الذي تأسَّس لتمويل الجهات والأنشطة الدينية(2).
لم تمنع الفضائح التي صاحبت باباوية راتزينغر من الاحتفاء به عند وفاته بوصفه أحد أهم لاهوتيي الكنيسة الكاثوليكية المعاصرين، بل إن الاحتفاء به سبق وفاته بسنوات بعيدة، إذ غالبا ما أشير إليه على أنه حافظ على التقليد الكاثوليكي في مقابل البابا “فرنسيس” المعروف بميوله الإصلاحية. فقد مثّل راتزينغر الألماني الوجهَ الكلاسيكي للكاثوليكية الأوروبية المحافظة التي مثلت امتدادا لعصر يوحنا بولس (بابا الفاتيكان بين أكتوبر/تشرين الأول 1978 وأبريل/نيسان 2005)، في مقابل البابا فرنسيس اللاتيني الذي جاء لينقل الكنيسة من عصر يوحنا بولس الثاني إلى نمط جديد بالكُلية(3).
من هو بنديكتوس السادس عشر؟
حظي بنديكتوس السادس عشر بالكثير من الكتابات التي وثّقت حياته وسيرته الذاتية، وقد أثارت سيرته اهتمام السينما أيضا من خلال فيلم “الباباوان (The Two Popes)” الذي أنتجته منصة “نِتفليكس” عام 2019، وأظهرت أحداثه أن انتقال الباباوية إلى فرنسيس كان بمثابة كسوف لشمس الكنيسة الكاثوليكية. بيد أن المتأمل لسيرة راتزينغر الذاتية يرى فيها الكثير من التحوُّلات، فهو رجل عاش حياة طويلة، ومات قبيل إتمامه قرنا من الزمان تنقَّل خلاله في مواقع عدة شهدت أفوله وسطوعه ثم أفوله من جديد.
ولد جوزيف راتزينغر عام 1927 لأب يعمل بالشرطة وأم تعمل طاهية في ريف ولاية “باڤاريا”، أحد أهم مراكز الكاثوليكية بألمانيا، إذ لم تضربها ثورة مارتن لوثر الإصلاحية مثل الكثير من أنحاء البلاد التي تغلب البروتستانتية على شمالها وغربها. وقد عاش حياته في كنف أسرة من 3 أشقاء، منهم شقيقه جورج الذي سلك معه طريق الله والخدمة الكنسية، حيث التحقا معا بمدرسة دينية(4). وعاش راتزينغر طفولته في ظل ألمانيا النازية، إذ انضم لمنظمة “شباب هتلر” عندما كان ابن 14 عاما، وفقا لما يرويه الصحافي الألماني “بيتر سيڤالد”(5) في كتابه المُخصَّص لتلك الحقبة من حياة البابا الراحل، مؤكدا أن راتزينغر أُجبِر على الانضمام للمنظمة، إذ إنه ينحدر من عائلة مناهضة للنازية. وقد كان البابا في شبابه أيضا عضوا في وحدة عسكرية تحمي مصنعا لسيارات “بي إم دَبليو”، وقال راتزينغر عن تلك الفترة إنه لم يطلق رصاصة واحدة ولم يشارك قط في أي قتال، حتى نُقِل إلى وحدة في المجر حيث أقام مصيدة للدبابات. وفي نهاية الحرب كان يرى الجنود الأميركيين يلتقطون له الصور مع رفاقه مهزوما كتذكار يعودون به إلى عائلاتهم(6).
من الإصلاح الكنسي إلى التيار التقليدي المحافظ
بعد تلك الفترة المضطربة عاد راتزينغر وحصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت من جامعة ميونيخ، ورُسِم (كُلِّف بالخدمة الكنسية) كاهنا رفقة أخيه جورج، ثم حصد درجة الأستاذية، وسلك مجال التدريس الأكاديمي، وهي فترة شهدت انتقاله من تيار الإصلاحيين إلى أقصى يمين التيار التقليدي، فقد كان راتزينغر صديقا مقربا للاهوتي الليبرالي “هانز كونغ” حينئذ، ويُنسَب لكونغ تعيين راتزينغر في جامعة توبينغن، بيد أن تلك الجامعة سرعان ما أضحت سببا في تحولاته الجذرية.
ففي عام 1968 وقّع راتزينغر على بيان شهير أكد فيه مع 1360 لاهوتيا على حقهم في استكشاف العقيدة الكاثوليكية، مع التشكيك في قرارات السلطة الكنسية، وهو موقف وُصِف بالليبرالية. إلا أن ما جرى في العام نفسه من اضطرابات طلابية تسبَّب في تغيير موقفه إلى اليمين، فقد شهدت جامعة توبينغن مظاهرات رأى فيها راتزينغر منشورات تصف الصليب بأنه “صنيعة مازوخية” (نزعة يستلذ صاحبها بتلقِّي الألم) مع محاولات من الطلاب الراديكاليين لعرقلة التدريس؛ ما دفع راتزينغر إلى ترك الجامعة والاتجاه نحو جامعة محافظة أكثر وفقا لما رواه الكاتب الإنجليزي “كليفورد ميلز” في سيرة البابا الذاتية، إذ شعر آنذاك أن تلك الأفعال تُذكِّره بالنازية، وأنه لا سبيل لمقاومتها إلا بالتمترس خلف تقاليد الكنيسة الكاثوليكية والحفاظ عليها.
قبل تلك السنوات، وتحديدا بين عامي 1962 و1965، قاد النبوغ الأكاديمي راتزينغر إلى المساهمة في جلسات المجمع الفاتيكاني الثاني الشهير، الذي عُدَّ تغييرا في تاريخ الكاثوليكية المعاصرة، إذ يُنسَب إلى المجمع تغيير علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالديانات الأخرى، لا سيما اليهودية والإسلام. غير أن تحولات راتزينغر الفكرية من التيار الإصلاحي إلى التيار المحافظ جعلته يصطدم بالمسلمين حين تولّى الكرسي الباباوي عام 2005، إذ زعم في خطاب أثار الكثير من اللغط في أيلول/سبتمبر 2006 بجامعة “رِغِنزبورغ”، التي عمل فيها أستاذا للاهوت، بأن إيمان النبي محمد بالجهاد “أمر شرير وغير إنساني”، وذلك في معرض نقله قول حاكم مسيحي من القرن الرابع عشر. وقد أثار تصريحه حفيظة المسلمين، ودفع بالأزهر الشريف إلى الإعلان عن مقاطعة الفاتيكان رسميا. لم تُغيِّر تلك الأحداث موقف البابا الذي قدّم اعتذارا للمسلمين لكنه لم ينفِ فيه ما قاله، بل قال إنه لم يشأ جرح مشاعرهم الدينية ليس إلا.
في أثناء سنوات خدمته بالكنيسة، منحت أصولية راتزينغر الفرصة لسلفه البابا يوحنا بولس الثاني -الذي شاركه الأفكار اللاهوتية نفسها- الفرصة لترقيته في عدة مناصب، فقد رُسِم أسقفا لمدينة ميونيخ عام 1981، فصار أصغر الأساقفة سِنّا في الفاتيكان، ثم عيَّنه البابا في منصب حساس وهو رئيس مجمع العقيدة والإيمان، أحد أهم مناصب الفاتيكان، وحِصن الدفاع عن الكاثوليكية أمام منتقديها، وهي تطورات تسببت في وصف راتزينغر بأنه عصا حديدية سعت لإسكات الليبراليين في عصر يوحنا بولس الثاني، وقد ظهر ذلك جليا في حملة شنها راتزينغر ضد لاهوت التحرير الذي انتشر في أميركا اللاتينية حينذاك، وهي فلسفة انتقدت مواقف الكنيسة الكاثوليكية من الاستعمار وتبنّت مرجعية تجمع بين الأفكار الاشتراكية والكاثوليكية، الأمر الذي كلّف راتزينغر صداما آخر مع السكان الأصليين لأميركا اللاتينية أثناء سنوات باباويته.
ففي عام 2007 عندما قال أثناء كلمة له في البرازيل إن سكان القارة الأصليين كانوا “يتوقون سرا” للدين المسيحي الذي جاء به المستعمرون، تسبّبت كلمته في احتجاج الجماعات التي تُمثِّل السكان الأصليين، بينما قالت إحداها إن ممثلي الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الزمن مع بعض الاستثناءات القليلة كانوا ضالعين ومنافقين ومستفيدين من إحدى أفظع المجازر في تاريخ البشر(7). ولم يختلف موقف البابا من السكان الأصليين عن موقفه من المسلمين، فقد اعترف حين عودته لروما بأنه لا يمكن نسيان المعاناة والظلم الذي تسبب فيه الاستعمار لسكان أميركا اللاتينية، مكررا التأكيد على رأيه بأن “الكاثوليكية في أميركا الجنوبية شكّلت حضارة القارة بشكل إيجابي في السنوات الخمسمئة الأخيرة”، وهو نفسه ما جرى مع المسلمين حين رفض التراجع عن آرائه صراحة، مُفضِّلا الاعتذار عمّا سبّبته كلماته فقط دون نفيها بالكُلية.
عقب وفاة البابا يوحنا بولس الثاني، وجد الكاردينال راتزينغر نفسه مُشرِفا على مراسم وداع أستاذه عام 2005 قبل أن يصبح أحد المرشحين للكرسي الباباوي مع اثنين آخرين، وقد روى ميلز تفاصيل اختياره بابا للكنيسة، فبعد جولتين من التصويت السري حُسِمَت الثالثة لصالحه. وقد بدأ الرجل باباويته حاملا شعارات رفض الاتجاهات العلمانية في المجتمع الغربي، ومتمسكا بموقف الكنيسة من منع الإجهاض وعدم رسامة الكهنة المتزوجين، وهي توجُّهات باتت أقل حِدة بعد وصول البابا الحالي فرنسيس للكرسي الرسولي عام 2013.
اعتداءات الكهنة على الأطفال تطارد البابا المحافظ
رغم مواقف البابا بنديكتوس المحافظة تلك، فإنه لم يكن حاسما بما يكفي مع ما ارتكبه الكهنة من اعتداءات جنسية وقت توليه منصب أسقف ميونيخ. فقد جُرِّم البابا السابق في تقرير حول التعامل مع الاعتداء الجنسي على الأطفال في الكنيسة الكاثوليكية في ميونيخ، ووفقا لمكتب المحاماة “وِستْبفال سبيلكر واستل” فإن البابا بنديكتوس، رئيس أساقفة مدينتي ميونيخ وفرايسينغ بين عامي 1977 و1982، فشل في منع رجال الدين المتهمين بارتكاب انتهاكات في 4 قضايا؛ ما اضطره للتبرير قائلا: “لقد كانت لدي مسؤوليات كبيرة في الكنيسة الكاثوليكية؛ ما زاد من الانتهاكات خلال فترة ولايتي. ومرة أخرى لا يمكنني إلا أن أعبر لجميع ضحايا الاعتداء الجنسي عن حزني العميق، وأطلب العفو بصدق”. ولكن الموت أنقذ البابا من المثول أمام المحاكمة في نهاية المطاف.
دفعت هذه الانتهاكات بالبابا الحالي فرنسيس إلى اتباع سلوك مغاير، فمن جهة لم يلتفت البابا الإصلاحي كثيرا لعصمة رجال الكنيسة من الخطأ، ومن جهة أخرى أعلن مسؤولية الكنيسة عنها، كما أسس مكاتب لحماية القاصرين بكل الكنائس الكاثوليكية حول العالم. ويُظهِر فيلم الباباوان (2019) اختلافات جذرية بين البابا فرنسيس بوجهه الإصلاحي، فهو رجل لاتيني يرقص التانجو ويتابع كرة القدم ويرتدي أحذية رثة، في مقابل البابا الأوروبي الذي طالما حرص على أناقته وعزف الموسيقى الكلاسيكية. وهي فروق انعكست على كنيسة مار بطرس التي انطلقت من عصر البابا المحافظ المُتَّهم بمعاداة الإسلام إلى عصر البابا فرنسيس الذي وقّع وثيقة الأخوة الإنسانية مع المسلمين في قلب الجزيرة العربية، ومن البابا الذي يعادي لاهوت التحرير إلى بابا أرجنتيني قادم من نصف الكرة الجنوبي بأفكار تسعى لتحرير الكنيسة من علاقتها بالاستعمار وتجعلها أكثر حيوية وأكثر قُربا من المهمشين والفقراء وأبعد عن تقليدها الأوروبي البارد.
لم تقتصر الفروق بين الباباوين على ما عرضه الفيلم، وهي فروق تظهر للمفارقة في اختيارهما لاسميهما، فقد حرص راتزينغر على اختيار اسم “بنديكتوس” نسبة إلى القديس “بنديكتوس النيرسي” (480-547)، شفيع أوروبا ومؤسس الرهبنة البنديكتية أو رهبنة الثوب الأسود، وهي أقدم رهبنة في القارة العجوز، أما فرنسيس فاختار اسمه منتسبا للقديس “فرنسيس الأسيزي” (1181-1226)، مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية أو الثوب البني التي اعتمدت منهج الفقر الاختياري والزهد، وشكَّلت نموذجا للثورية في الكنيسة وقت ظهورها. لقد قضى بنديكتوس سنواته الأخيرة في دير فاتيكاني يشاهد التغيرات الكبرى التي أطلقها سلفه في القصر الرسولي بينما اكتفى بما تركه من إرث لاهوتي بوصفه رجلا حافظ على التقليد الكنسي وانحاز لما صدقه وآمن به دون أن يحميه ذلك من الخطأ رغم عصمة البابا في العقيدة الكاثوليكية.
________________
- لماذا استقال البابا بنديكتوس السادس عشر؟
- المصدر السابق
- Mills, C. (2007). Pope Benedict XVI. Chelsea House Publishers.
- المصدر السابق
- Seewald, Peter. (2023). Benedict XVI – A life: Youth in Nazi Germany to the Second Vatican Council 1927-1965.
- المصدر السابق
- البابا بنديكتوس السادس عشر: رأس الكنيسة الذي أثار حفيظة المسلمين والسكان الاصليين في أمريكا الجنوبية