لقاء المصالح بعد سنوات القطيعة.. لماذا تسعى تركيا للتقارب مع النظام السوري؟
عُقِد في العاصمة الروسية موسكو اجتماع ثلاثي، في 28 ديسمبر/كانون الأول 2022، ضمَّ وزراء دفاع روسيا وتركيا وسوريا، ومسؤولي استخبارات الدول الثلاث. للوهلة الأولى، بدا الاجتماع مفاجئا وخارجا عن سياق السياسة التركية تجاه سوريا. وكان طبيعيا أن يثير ردود فعل من جميع الاتجاهات، بما في ذلك الإدارة الأميركية، التي أصدرت بيانا استنكاريا خفيف اللهجة. الحقيقة أن لقاءات غير معلنة، على مستوى قادة الاستخبارات التركية والسورية، سبق أن عُقدت بالفعل خلال العام أو العامين الماضيين. في 2021، تحدث وزير الخارجية التركي مع نظيره السوري على هامش مؤتمر إقليمي لوزراء الخارجية، وإن كان بصورة عابرة وغير مطولة.
كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد عبَّر علنا، في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2022، عن رغبة بلاده في تطبيع العلاقات مع سوريا، دون أن يستبعد لقاء على مستوى القمة في المستقبل. ولم يلبث أردوغان أن تابع تصريحه ذاك بعد أيام قليلة بالإشارة إلى أنه طرح على الرئيس فلاديمير بوتين اقتراحا بتولي روسيا تنظيم مسار ثلاثي للدفع بعملية تطبيع العلاقات التركية-السورية. والواضح أن لقاء وزراء دفاع وقادة استخبارات الدول الثلاث بموسكو كان الخطوة الأولى في هذا المسار.
وعموما، يجب عدم التقليل من دلالات هذه الانعطافة البارزة في العلاقات التركية-السورية، وما تعنيه لمستقبل سوريا. تعيش سوريا، جارة تركيا الجنوبية، حربا أهلية طاحنة منذ أكثر من عشر سنوات، أدت إلى تقسيم هذا البلد العربي الرئيسي إلى مناطق نفوذ مختلفة، وجعلت منه ساحة لصراعات القوى الإقليمية والدولية وتدافع الفصائل المسلحة من الأصناف كافة. ورغم التعقيد الذي أحاط بالموقف التركي من الثورة، ومن الحرب الأهلية السورية اللاحقة، تُعَدُّ تركيا طرفا أساسيا في الصراع في سوريا، لاعتبارات منها أن مناطق سورية شمالية تخضع لسيطرة تركيا، وأن تركيا تحتضن ملايين اللاجئين السوريين، ومعظم قوى المعارضة السورية.
فلماذا اتجهت أنقرة لإطلاق هذا المسار في علاقاتها مع دمشق، بعد أكثر من عقد من القطيعة والصراع؟ وما الذي يمكن أن يُفضي إليه تطبيع العلاقات التركية-السورية؟
نتائج أولية للتقارب التركي السوري
اسْتَخدَمت البيانات الرسمية التي صدرت عن الدول الثلاث بعد نهاية اجتماع موسكو لغة واضحة التحفظ، وإن أعربت عن قدر من التفاؤل. أما التسريبات غير الرسمية، لا سيما تلك التي جاءت من الجانب التركي، فبدت أكثر إيجابية في تقدير ما تمخض عن اللقاء الثلاثي.
طبقا لبيان وزارة الدفاع الروسية، جرى الاجتماع في أجواء بنَّاءة، وقد اتفقت الأطراف على استمرار الاتصالات لمناقشة سبل حل الأزمة السورية، ومسألة اللاجئين، ومجابهة الجماعات “المتطرفة”. أما وكالة الأنباء السورية الرسمية، سانا، فوصفت الاجتماع بالإيجابي، وأكدت اتفاق الأطراف على مكافحة الجماعات “الإرهابية”. أما بيان وزارة الدفاع التركية، فوصف الاجتماع بالبنَّاء، وترك التفاصيل لتصريحات أدلى بها وزير الدفاع خلوصي أكار. وكان ضمن ما أكَّده أكار أن الجانب التركي أشار خلال الاجتماع إلى ضرورة المُضي نحو حل الأزمة السورية على أساس قرار مجلس الأمن 2245، الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2015.
والمعروف أن هذا القرار وضع خارطة طريق لاتفاق أطراف النزاع السوري الداخلي على إقامة حكم ذي مصداقية، غير طائفي أو فئوي، وعلى دستور سوري جديد. ولكن بعد مُضي سبع سنوات على صدور القرار الأممي، وإشراف الأمم المتحدة على سلسلة لقاءات بين الأطراف السورية، ليس ثمة تقدُّم يُذكر سواء فيما يتعلق بإعادة بناء الدولة السورية، أو وضع دستور سوري جديد محلَّ توافق بين النظام والمعارضة.
ولا بد أن وزير الدفاع التركي أدرك أن حديثه حول القرار 2245 لم يُنظَر إليه بأي قدر من الاطمئنان من قِبَل المعارضة السورية، ومن السوريين في مناطق النفوذ التركي في شمال سوريا. وهذا ما دفعه بعد يومين على اجتماع موسكو إلى التأكيد أن مسار الاتصالات بين تركيا وسوريا لن يكون له أثر سلبي على الشعب السوري وعلى قوى المعارضة السورية في تركيا، ودفع أيضا وزارة الخارجية التركية إلى ترتيب لقاء بين وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو وقيادة الائتلاف السوري المعارض.
بصورة غير رسمية، ذكر مصدر تركي لجهات إعلامية، بما في ذلك قناة الجزيرة، أن اجتماع موسكو توصل بالفعل إلى عدد من الإجراءات الملموسة، مثل توافق أطراف الاجتماع على تشكيل لجنة ثلاثية للعمل على تطوير آلية لتسهيل عودة آمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وبحث سبل التعامل مع ملف قوات سوريا الديمقراطية (التي تشمل وحدات حماية الشعب الكردية)، وعودة حركة النقل التجاري التركي عبر سوريا.
ولكن مهما كانت مصداقية هذا التقرير، أو مستوى المصدر غير الرسمي الذي نُسِب إليه التقرير، فمن الواضح أن اجتماع موسكو لم يكن سوى بداية لمسار تفاوضي، قد يطول قليلا قبل أن تنجم عنه نتائج ملموسة على صعيد عودة العلاقات الطبيعية بين تركيا وسوريا. كلا الطرفين، التركي والسوري، يسعى إلى تحقيق أهداف كبيرة من عملية التطبيع، أهداف لا تتداخل وحسب، بل تتعلق بجوهر الأمن القومي لكلتا الدولتين ولتصوُّرهما لمصالحهما الحيوية.
عقدان حافلان من العلاقات التركية-السورية
انتهجت الحكومة التركية منذ وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002 سياسة إقليمية نشطة، استهدفت تعزيز العلاقات مع دول دوائر جوار تركيا الثلاث الرئيسة: الجوار العربي، وشمال القوقاز، والبلقان. ولم يكن غريبا أن تحتل سوريا موقعا مركزيا في سياسة تركيا العربية، ليس فقط لكونها جارا مباشرا لتركيا، أو للعلاقات السابقة بين النظام السوري وحزب العمال الكردستاني، ولكن أيضا لاعتبارات اجتماعية وثقافية ربطت البلدين وشعبيهما. وجد هذا التوجه التركي استجابة سريعة من بشار الأسد، الذي كان يحاول بناء صورة إيجابية لنظامه بعد أن تولى رئاسة سوريا وريثا لأبيه، ويعمل على ترميم علاقات بلاده الإقليمية والدولية. وليس ثمة شك أن غزو العراق واحتلاله أضفى على التقارب التركي-السوري طابع الإلحاح والضرورة.
خلال العقد الأول من القرن، نجح البلدان في تصفية معظم عواقب ضمِّ الجمهورية التركية لإقليم هاتاي (الإسكندرون)، التي ظلَّت عالقة منذ ثلاثينيات القرن العشرين، وفتحا الحدود لحركة البشر والبضائع الحرة. اندفع رجال أعمال أتراك للاستثمار في السوق السورية، وتخلصت سوريا كلية، تقريبا، من علاقاتها مع حزب العمال الكردستاني. ولعدة سنوات، وفي مواجهة ضغوط أميركية هائلة على دمشق، بدا وكأن تركيا أصبحت الضامن لاستقرار سوريا وأمنها.
وليس ثمة شك أن تركيا جرت أقدامها بتثاقل كبير نحو الانخراط في دعم الثورة السورية. اندلعت الثورة في مارس/آذار 2011، وكانت الخامسة في سلسلة الثورات العربية التي بدأت بتونس، ثم مصر، ثم ليبيا واليمن. وسبق للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن توجَّه بالنصيحة لنظيره السوري للقيام بإصلاحات جذرية، لتجنب مصير دول الثورات العربية الأخرى. بعد انطلاق حركة التظاهر الشعبي السوري، وطوال ما يزيد على ستة أشهر، قام مسؤولون أتراك، بما في ذلك وزير الخارجية التركي ومسؤول الاستخبارات التركية، بسلسلة زيارات إلى دمشق، في محاولة لدفع بشار الأسد إلى التوقف عن استخدام العنف والقتل ضد المتظاهرين، وتبني برنامج إصلاحي للدولة ونظام الحكم يقابل الشعب في منتصف الطريق. ولكن الأسد، الذي اعتاد تشييع المبعوثين الأتراك بجميع الوعود المطمئنة، لم يستجب بأي قدر ملموس لمطالب حلفائه الأتراك.
مع خريف 2011، أدركت أنقرة أن الأسد ماضٍ في سياسة قمع شعبه بقوة السلاح، وأن من العبث التعويل على وعود الرئيس السوري. في الوقت نفسه، ازدادت أعداد اللاجئين السوريين إلى تركيا بصورة مطردة، ولم يعد ثمة شك في حجم التدخل الإيراني في الصراع المحتدم بين النظام والشعب. ثم عقب أن دعت دول عربية رئيسة إلى تغيير النظام في دمشق، أعلنت أنقرة عن تبني سياسة مشابهة. ومنذ ربيع 2012، وبعد أن تحولت الثورة السورية إلى العمل المسلح، شاركت تركيا، إلى جانب السعودية، وقطر، والإمارات، والأردن، والولايات المتحدة، في دعم جماعات معارضة سورية بعينها، بينما حرصت على استمرار الاتصالات مع إيران للتوصل إلى حل سياسي للأزمة في البلاد.
خلال السنوات القليلة التالية، لا سيما منذ 2015، ولأسباب مختلفة، توقفت السعودية والإمارات والأردن والولايات المتحدة عن دعم قوى الثورة السورية، واتجهت واشنطن على وجه الخصوص إلى التحالف مع الفصائل الكردية السورية في شمال شرق وشرق سوريا، بحجة محاربة الإرهاب، ومواجهة تنظيم الدولة. ولم تلبث روسيا أن تدخلت، وبقوة نيران هائلة، طرفا مباشرا لحماية النظام وتأمين وجوده. ومنذ 2018، ورغم عجز نظام دمشق عن بسط سيطرته على قطاعات واسعة من البلاد، وتعدد مناطق النفوذ داخل سوريا، والمقاطعة الدولية وانهيار الاقتصاد السوري، لم يعد ثمة شك في أن الثورة السورية باتت عاجزة عن إسقاط النظام. بكلمة أخرى، وصلت سياسة تغيير النظام، التي كانت تركيا وعدة دول عربية قد تبنَّتها، إلى طريق مسدود.
عواقب حرب أهلية ممتدة
كان لانغلاق الأفق أمام أطراف الصراع على سوريا عواقب باهظة لكلٍّ من تركيا والنظام السوري على السواء. تستقبل تركيا ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف المليون من اللاجئين السوريين. ورغم أن الاتحاد الأوروبي قدَّم مساهمة متواضعة، ولمرة واحدة، للمساعدة في رعاية اللاجئين، فإن العبء الأكبر يقع على كاهل الدولة التركية. كما كان لانتشار أعداد كبيرة من السوريين في المدن والبلدات التركية آثار اقتصادية واجتماعية ملموسة، سرعان ما وظَّفتها قوى المعارضة التركية، لا سيما تلك المعروفة بتوجهها القومي العنصري، ضد حكومة العدالة والتنمية والرئيس أردوغان.
بيد أن المخاطر الأمنية التي نجمت عن تداعي الوضع السوري، مَثَّلت تهديدا أكبر بكثير لتركيا. فمنذ أن تبنَّت واشنطن سياسة الاعتماد على الفصائل المسلحة الكردية للقيام بمهام مكافحة الإرهاب في 2015، قدَّمت الولايات المتحدة (ومعها فرنسا) دعما ماليا وعسكريا متواصلا لقوات سوريا الديمقراطية، التي تُمثِّل وحدات حماية الشعب الكردية، وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، عمودها الفقري. ولأن القوات الأميركية الموجودة في سوريا تقوم بدوريات مشتركة مع وحدات الشعب، تبدو الولايات المتحدة وكأنها توفر مظلة حماية مباشرة لهذه الفصائل الكردية.
تسيطر هذه المجموعات الكردية على مساحات واسعة من مناطق الكثافة الكردية السورية في شمال شرقي سوريا، وعلى مدن وبلدات ذات أغلبية عربية في شرق وشمال البلاد. وتعتقد أنقرة، بل تقول إنها تملك أدلة على أن مناطق السيطرة الكردية قد تحولت إلى بؤر تدريب وتنظيم لعناصر “إرهابية كردية”، يدفع بها حزب العمال الكردستاني للقيام بعمليات داخل المدن التركية وضد المدنيين الأتراك. حاولت أنقرة، بلا طائل، إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن التحالف مع الفصائل المسلحة، كما سعت عبر ثلاث عمليات عسكرية إلى تأمين الشريط الحدودي مع سوريا غرب الفرات. ولكن الموقف الأميركي ما زال يقف عائقا أمام أية محاولة تركية للسيطرة على منطقة غرب الفرات.
ولا تقل العواقب سوءا من وجهة نظر النظام السوري. فرغم أن نظام الأسد لم يعد مهددا بالسقوط، فإن سيادته على بلاده لا تزال تقتصر على منطقة الساحل، والوسط الممتد من حلب إلى دمشق ودرعا والحدود مع الأردن. تسيطر تركيا على معظم الشريط الحدودي غرب الفرات، بينما تسيطر الفصائل الكردية والقوات الأميركية على معظم الشمال السوري شرقي الفرات، وعلى قطاع واسع من الشرق والصحراء السورية، بما في ذلك مناطق حقول النفط. وحتى في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، فإن هذه السيطرة تظل محدودة. ففي جنوب دمشق، ثمة اتفاق هشٌّ مع القوى المحلية في درعا، ترعاه القوات الروسية. أما في السويداء، فتبدو قدرة النظام على ممارسة الحكم شكلية وقلقة إلى حدٍّ كبير.
من جهة أخرى، ظل الوجود الروسي في سوريا في العموم محددا بالمجالين العسكري والأمني، أما الإيرانيون فأخذوا من البداية في لعب دور قوة الوصاية غير المعلنة. توفر عناصر الحرس الثوري، ومجموعات حزب الله، وغيرها من الفصائل الشيعية، تأمينا عسكريا فعالا للنفوذ الإيراني، بينما عملت جهات أخرى مرتبطة بطهران على الاستيلاء على أراضٍ داخل المدن السورية وخارجها، والتغلغل في الساحة الاقتصادية. كما عملت طهران على التحكم في مفاصل الأجهزة السورية العسكرية والأمنية. وسواء بموافقة النظام السوري أو بدون موافقته، تُقيم إيران قواعد ومراكز إعداد عسكري، لاستخدامها في أي صراع محتمل مع إسرائيل، التي ردت باستباحة الفضاء السوري.
هذه العواقب الهائلة لسنوات الحرب السورية الأهلية الطويلة، وتراجع توقعات النصر النهائي لأيٍّ من أطرافها، هي ما دفع أنقرة ودمشق إلى محاولة ترميم العلاقة بينهما.
أهداف تركيا وسوريا
ما تريده تركيا من التطبيع مع نظام بشار الأسد يتلخص في السعي إلى توفير مناخ آمن لبدء عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، ونزع ورقة اللاجئين بالتالي من المعارضة التركية. وتستهدف تركيا من إعادة العلاقات مع دمشق أيضا الاتفاق على آلية مشتركة للتعامل مع الجماعات الكردية السورية، ليس لحماية الأمن التركي المباشر وحسب، ولكن أيضا لمنع قيام كيان كردي ما على الجانب السوري من الحدود. ولأن الوجود العسكري الأميركي في سوريا وثيق الصلة بوجود الفصائل الكردية، يعتقد الأتراك أن تعاونا تركيًّا-سوريًّا لإعادة النظام إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد سيُفضي في النهاية إلى خروج الأميركيين من سوريا.
ليس ثمة مؤشر على أن تركيا تتجه إلى فك ارتباطها بحلف الناتو، أو أنها بصدد التحلُّل من علاقة التحالف التاريخية مع الولايات المتحدة؛ ولكن أنقرة تنظر بقلق متزايد للوجود الأميركي في سوريا. غاب الأميركيون عن سوريا، كما يقول الأتراك، عندما كانت أنقرة تأمل في أن يقوموا بموازنة التدخل الروسي. وعندما أسسوا لأنفسهم موطئ قدم، اتخذوا موقفا مناهضا للمصالح التركية. وفي رؤيتهم للوجود الأميركي في سوريا، لا يغيب عن الأتراك التوسع العسكري الأميركي غير المسبوق في اليونان، والانحياز الأميركي غير المتحفظ للجانب اليوناني فيما يتعلق بالصراع المحتدم على شرق المتوسط.
وليس ثمة شك أن دمشق تشاطر الأتراك هدف احتواء الفصائل الكردية، ومنع بروز كيان كردي، والتخلص من الوجود الأميركي. ولكنْ لدمشق أهداف أخرى من عملية تطبيع العلاقات مع أنقرة. فكما أن خروج أميركا من سوريا يجعل من السهل بسط نفوذ نظام دمشق على قطاع واسع من شمال شرقي البلاد وشرقها، فإن موافقة تركيا على الانسحاب من الشريط الشمالي غرب الفرات يعني عمليا نهاية المعارضة المسلحة واستعادة قطاع كبير من الأرض السورية. ولأن الاقتصاد السوري وصل فعليا إلى حد الانهيار، فإن المصالحة مع تركيا قد تساعد على عودة الآلاف من الأيدي العاملة السورية، وعلى عودة جزء ملموس من رأس المال السوري الذي هجر البلاد إلى تركيا.
أما الهدف الأبعد لنظام الأسد، فيتعلق برغبة دمشق في أن تؤدي عودة العلاقات مع تركيا إلى تشجيع الدول العربية الرئيسة على مصالحة سوريا، وأن تعمل العودة التركية والعربية إلى سوريا بالتالي على موازنة النفوذ الإيراني.
منعطف كبير ومسار طويل
في تعليقه على اجتماع موسكو الثلاثي، استبعد وزير الخارجية التركي استئناف اللقاءات التركية-السورية على المستوى السياسي قبل نهاية يناير/كانون الثاني 2023. ولكنه عاد في تصريح له، يوم 31 ديسمبر/كانون الأول، وبعد مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ليقول إن لقاء وزراء الخارجية سيعقد في النصف الثاني من يناير/كانون الثاني 2023، وذلك في إشارة إلى رغبة الدول الثلاث في الحفاظ على المسار التفاوضي، وربما إلى رؤية إيجابية مشتركة لما حققه اجتماع موسكو.
ثمة توجه تركي للمصالحة الإقليمية أخذ في التبلور منذ صيف 2020، ونجح بصورة كلية أو جزئية في استعادة العلاقات الطبيعية مع الإمارات، والسعودية، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وأرمينيا، ومصر. ولكن التطبيع التركي-السوري هو بالتأكيد متغير أكبر بكثير من أيٍّ من المصالحات الأخرى، ليس فقط لتعدد الأطراف المنخرطة في غمار الأزمة السورية والدور الذي تلعبه تركيا في هذه الأزمة، ولكن أيضا للتعقيد البالغ الذي أحاط بهذه الأزمة طوال العقد الماضي. لذلك فإذا أحرز مسار التطبيع التركي-السوري تقدُّما فعليا خلال الأشهر القليلة المقبلة، فستكون هذه خطوة البداية نحو انفراج الأزمة السورية ونهاية النزاع الأهلي.
بيد أن هذا لا يعني بالضرورة توقع نتائج سريعة لعملية المصالحة، تكون كافية لإرضاء طرفيها الرئيسيين. بعض ما تسعى الدولتان إلى تحقيقه، مثل عودة النظام إلى مناطق السيطرة الكردية، يُعَدُّ مطلبا مشتركا لأنقرة ودمشق. ولكن المشكلة أن الشأن السوري لا يتعلق دائما بإرادة أنقرة ودمشق، حتى وإن التقت رغبات النظام بالرغبات التركية. ثمة أطراف، مثل إيران والولايات المتحدة وروسيا، يكاد يستحيل إحراز تقدم ملموس في مسار المصالحة التركية-السورية بدون موافقتها. وتبدو إيران، صاحبة النفوذ الأكبر في مؤسسات النظام السوري، الأكثر قلقا من احتمالات المصالحة التركية-السورية. كما أن بعضا من القضايا محلَّ البحث والتفاوض، مثل انسحاب تركيا من مناطق سيطرتها في إدلب وعفرين وشمالي حلب، يصعب توقع حدوثه قبل أن تتوفر أدلة مقنعة على تبلور حلٍّ مُرضٍ لجوانب الأزمة السورية الأخرى.
ولا يعني هذا بالضرورة أن المصالحة التركية-السورية ستُفضي إلى تطبيق فعال لقرار مجلس الأمن 2245، وموافقة نظام الأسد على بناء نظام سياسي جامع، يضم القطاع الأكبر من قوى المعارضة، وعلى وضع دستور توافقي جديد. إن امتناع النظام طوال السنوات الماضية عن التعامل بجدية مع القرار 2245، وتحول إجراءات القمع والإبادة إلى سياسة روتينية في تعامل النظام مع الشعب السوري، وطغيان الطابع الطائفي على بنية النظام، لا يوحي بأن المجموعة الحاكمة في دمشق على استعداد لإطلاق برنامج إصلاح حقيقي للدولة ونظام الحكم. بدون ضغوط روسية جدية، وموافقة إيرانية، لن تستطيع تركيا دفع النظام السوري إلى تبني برنامج إصلاحي، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تحقيق أهداف أخرى تتعلق بأمن تركيا القومي ومصالحها المباشرة في الجوار السوري.
وهذا بالتأكيد ما يطرح العديد من الأسئلة حول مستقبل قوى المعارضة السورية، وملايين اللاجئين السوريين، إضافة إلى السوريين الآخرين المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة والنفوذ التركي. ثمة أعداد من اللاجئين ستبادر بالتأكيد إلى العودة إلى البلاد، ولكنَّ أعدادا أخرى لن تقبل بالعودة، سواء لأنها لا تطمئن لوعود الحكم السوري، أو لأن أحد أفرادها انخرط في نشاطات معارضة للنظام. كما أن المعارضة السورية لا تقتصر على الائتلاف السوري، الذي هو في الحقيقة ليس سوى إطار تمثيلي، ولا على التنظيمات المسلحة. تضم المعارضة السورية أطيافا عديدة من الجماعات والأفراد والمنظمات المدنية والسياسية والثقافية والإعلامية. وتُعَدُّ هذه المعارضة بعشرات وربما مئات الآلاف من السوريين الذين يقيم أغلبهم في تركيا، ولن يقبلوا بالعودة إلى سوريا يحكمها نظام الأسد. ولا يبدو أن تركيا تعرف كيف ستنظم علاقتها مع كل هؤلاء السوريين، في حال مضت المصالحة مع نظام دمشق قُدُما.
بكلمة أخرى، إن كان ليس من الحكمة تجاهل أهمية اللقاءات التركية-السورية، وما تعنيه لمستقبل سوريا والإقليم كله، فليس من المؤكد كذلك توقع أن تأتي هذه اللقاءات بحلول سريعة للمسألة السورية، حتى إن ارتقت إلى لقاء على مستوى رئاسة الدولتين.
_____________________________________
هذا التقرير مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات.