Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

داخليا وخارجيا.. ما الذي كسبته السياسة المغربية بفضل إنجاز أسود الأطلس في مونديال 2022؟


تُعَد بطولة كأس العالم لكرة القدم حدثا ثقافيا عالميا ضخما، كما أن المونديال الذي يتابعه مليارات المشاهدين الشغوفين، بل حتى أولئك الذين ليسوا في العادة من عشاق هذه اللعبة، صار أكثر من مناسبة رياضية، أما كرة القدم نفسها فقد تعدت اعتبارها مجرد نشاط ترفيهي أو تنافسي، وهي أقرب اليوم إلى ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية.

لذلك يسعى هذا المقال إلى نقل كرة القدم، وبنفس لغتها، من الأجنحة إلى مركز الصدارة، وإدراك التلاحم الممكن بين كرة القدم والسياسة، ومركزية اللعبة في النظام الثقافي العالمي الحالي، وذلك من خلال نموذج مثير للاهتمام في بطولة كأس العالم الأخيرة، وهو الفريق المغربي الذي استطاع أن يحقق إنجازا غير مسبوق بالنسبة إليه، وحتى بالنسبة إلى محيطه الإقليمي، حيث سيتعرض التحليل لمستويين: داخلي وخارجي، يتعلقان بكيفية تفسير ذلك الإنجاز سياسيا ودبلوماسيا.

أيقونة مونديال قطر

دخل الفريق المغربي لكرة القدم غمار كأس العالم بقطر بصفته منتخبا عاديا قادما من مسار عادي، لكنه حقق ما ليس اعتياديا، لقد صارت قصة المونديال تحتمل اللامتوقع، لم تَعُد تنتهي بمرور منتخبات كأن لم تمر، بل تستمر بمنتخب بطل، وهكذا تركت مقولة “المستحيل ليس مغربيا” السؤال يجول في الأذهان: كيف ذلك؟ ولمَ لا؟

أظهر الفريق المغربي نفَسا طويلا بالتفوق في مواجهات حاسمة، حيث قال كلمته وأخرس قوى كروية كبرى (بلجيكا، إسبانيا، البرتغال)، وكان كل انتصار يحققه بمثابة خروج على النص واقتراف حماقة حلم المزيد، فاستطاع أن ينفخ الروح في كلمة “المستحيل” ويبدلها بـ”الممكن المغربي”، ويقفز إلى واجهة الحدث، مغيرًا بذلك مجرى تاريخ المونديال باعتباره أول فريق إفريقي وعربي يرتقي إلى المربع الذهبي، وهو ما سمح له في نهاية المطاف بالوثوب عاليا في تصنيف الفيفا باحتلاله الصف الحادي عشر عالميا، وهكذا أصبح الفريق المغربي مصدر إلهام ليس فقط للمنتخبات الإفريقية والعربية، بل حتى بالنسبة للمنتخبات الأوروبية التي أُعجِبت بأدائه أيما إعجاب.

كان كل انتصار يحققه المنتخب المغربي بمثابة خروج على النص واقتراف حماقة حلم المزيد، فاستطاع أن ينفخ الروح في كلمة “المستحيل” ويبدلها بـ”الممكن المغربي”(رويترز)

لقد أثرى الفريق المغربي مونديال قطر، حيث ظهر أكثر احترافية وأكثر قوة، وحطم العديد من التوقعات النمطية التي لم ترشحه للعب أدوار طلائعية في البطولة، وشكَّل مساره انتصارا في أسلوب لعبه وكفاءته وتنظيمه، كانت لحظة أبهر فيها الفريق المغربي العالم بما يحققه من تفوق، وسلَّط عيون العالم على نهضته وعودته وتمرده.

ففي وقت ظَل من الشائع أن يتولى تدريب الفريق المغربي مدرب أجنبي، وقبل 3 أشهر فقط من انطلاق مونديال قطر، وقع الاختيار بتكليف المدرب الوطني وليد الركراكي بمهام تدريب الفريق المغربي بفضل ذكائه الكروي أكثر من أي مؤهلات أخرى قد يحوزها. الكل كان يحشد الفريق لمحاولة التخلص من عقدة السقوط في دور المجموعات لمدة طالت 36 سنة، فإذا به يحقق المفاجأة ويرتقي إلى أبعد من ذلك بكثير.

وهكذا استطاع الركراكي أن يرفع أداء لاعبي المجموعة التي تقلَّد الإشراف عليها، إذ وضع الفريق في نسق اشتراكي يتقاسم فيه الجميع نتائج المباريات، جاعلا كرة القدم صناعة تكون فيها النتائج هي الأهم، وبذلك “كان تسجيل هدف ضد فريق كبير في بطولة كأس العالم يجعل الفريق يشعر بأنه يسجل هدفا في التاريخ”.

فالطريقة التي اعتمدها المدرب خلطت أوراق وخواص اللعب لدى أعتى المنتخبات التي واجهها الفريق المغربي، إذ اعتمدت على العقلانية من خلال أسلوب اللعب الدفاعي الذي يعطي الأولوية لتأمين الشباك أمام الفريق الخصم، وعلى القيمة الثقافية للعب وتحديدا معنويات اللاعبين، حيث “يمكن التعبير عن الحالة الذهنية الدفاعية من خلال الإيقاع الجماعي الملاحظ”.

على أن المدرب لم يجعل الحالة الذهنية المطلوبة للفوز في المباريات مقصورة على الخطاب والممارسات داخل الميدان فحسب، بل خارجه أيضا، ولذلك أرسى علاقة مباشرة بينه وبين الجمهور، بحيث كلما تحدَّث معه قذف من فمه الحكمة تلو الأخرى، وأوجد قاموسا خاصا يخاطبه به، فما كان من المتفرجين إلا أن استجابوا وتفاعلوا وأحسنوا تشجيع فريقهم، فكانوا بحقٍّ اللاعب رقم 12 الذي يضطلع بمهمة شحذ همم اللاعبين.

أرسى علاقة مباشرة بينه وبين الجمهور، بحيث كلما تحدَّث معه قذف من فمه الحكمة تلو الأخرى، وأوجد قاموسا خاصا يخاطبه به، فما كان من المتفرجين إلا أن استجابوا وتفاعلوا وأحسنوا تشجيع فريقهم. (غيتي)

صحيح أنه في الخطاب السائد وصل الفريق المغربي إلى ما وصل إليه من مجد كروي لمهارة مدربه، ولكن ينبغي عدم إغفال الإمكانات المهمة التي تم وضعها تحت تصرفه، فعلى خلفية أن “عالم كرة القدم الحديث، المهتم باستكشاف كل طريق في السعي لتحقيق النصر، يعتنق الآن العلم والإستراتيجية والتقنية”، لأنها لم تَعُد لعبة ارتجال، اعتمد المدرب فريق عمل يضم خبراء متعددين في مجالات متنوعة من: الطب الرياضي، وتحليل الفيديو، وتحليل الأداء، والتغذية، إلى غير ذلك.

كذلك فإن اللياقة الذهنية التي ركز عليها المدرب جعلت اللاعبين يترابطون بروابط قوية كعائلة واحدة، ويسلمون أنفسهم لقناعات قائدهم، ذلك أنهم استوعبوا أن اللعب الجماعي هو أكبر إنتاج لجهودهم الفردية، وأن قيمة كل لاعب لا تبرز إلا وسط فريق منسجم ومتماسك، حيث “الذئب يعمل جيدا مع المجموعة”، غير أن الانضباط التكتيكي للاعبين والالتزام بفلسفة النتائج التي سطرها المدرب لم يحولا دون الإمتاع بصفته هدفا موازيا، إذ لم يمنعهم ذلك من توظيف المهارات الفردية داخل المجموعة، ففي أحايين كثيرة لعبوا كرة جميلة وأبانوا عن نمط لعب بحركات متميزة.

إن المواجهات الرياضية، بما فيها مباريات كرة القدم، لا تتعلق فقط بالفرق المتنافسة، ذلك أن “عروضنا وأحداثنا الرياضية اليوم تستمد معناها ليس من مجرد اللعب، ولكن من المتفرجين الذين يشاهدونها ويحفظونها”(4)، لذلك فإن ما جعل مسار الفريق المغربي باقيا في ذاكرة المونديال الأخير، ليس أن لاعبيه تنافسوا بقوة على إثبات جدارتهم، بل لأن ملايين المشاهدين عبر العالم عاينوا كيف أن الجماهير المغربية لم تكن الحدود الجغرافية محددا لدعم فريقها الوطني جاعلة من قميصه بطاقة تعريفها، وتابعوا مآثرها وهي تهيج جماعيا وتهتف له إلى حد الهوس من خلال مناشدة هوية مشتركة توحد اللاعبين والمتفرجين على حد سواء.

لقد أثبت المشجعون المغاربة في الملاعب القطرية الجانب المدهش في لعبة كرة القدم، حيث ألهبوا بحماستهم لعب اللاعبين، وكشفوا أن الشكل المناسب للترفيه في الملاعب هو ثقافة التشجيع الممهورة بالتزام تنظيمي داخل المدرجات فيما يتعلق بالهتافات وروح الاحتفال والتفاعل بين المشجعين.

تكوير السياسة على الصعيد الداخلي

أوقف الناس حياتهم اليومية لمواكبة فريقهم، فقد كان الجميع ينتظرون مواعيد مبارياته بشغف. (غيتي إيميجز)

كرة القدم هي لعبة وثقافة وحتى ظاهرة سياسية، إذ تخلق موارد قابلة للاستخدام سياسيا، فبالنسبة إلى إريك هوبزباوم فإن الإنتاج الثقافي لكرة القدم قادر على الاستيلاء على الخيال الشعبي وإثارة الميول القومية بشكل ملموس أكثر من المجالات الأخرى للبناء الثقافي والسياسي.

مع ما حققه الفريق المغربي لكرة القدم في مونديال قطر، تبين أن نجومه يتفوقون على سائر النخب في الأهمية العامة، فقد لعب الفريق دورا رمزيا في توحيد ما يفرقه الواقع السياسي، بل إن الفريق الوطني أضحى الحزب الأوسع تأثيرا في المجتمع المغربي حاليا وبمسافة شاسعة عن أي جماعة أخرى، وذلك بالنظر إلى قدرته على الحشد الجماهيري.

لقد أسهم الفريق في تحريك المشاعر العاطفية الاجتماعية، بل سمح للجماهير بالعبور إلى خارج الزمن الاجتماعي الاعتيادي، حيث أوقف الناس حياتهم اليومية لمواكبة فريقهم، فقد كان الجميع ينتظرون مواعيد مبارياته بشغف، ولم يقتصر التشجيع على الحضور الجسدي داخل مدرجات الملاعب، بل إنه امتد بدرجة أكبر إلى البيوت ومقار العمل، والمقاهي التي صار رزقها هو يوم مباريات المنتخب التي حظيت بمتابعة من الكبار والصغار، مع وجود مكثف من النساء المشجعات.

أسهمت متابعة مباريات الفريق الوطني في خلق إحساس بالتماسك والاستقرار، فقد شكلت لحظات إجماع مجتمعي مهم تربط أكثر الخلطات الاجتماعية والثقافية تمايزا، فمن جهة، أسهمت في تعديل الخريطة الاجتماعية لكرة القدم وظهور “تحالف طبقي” بين الجماهير، حيث لم يَعُد المشجعون محدودو الدخل هم المهتمين فقط بالمباريات رغم التمايز الطبقي الذي ينعكس في تقسيم مدرجات الملاعب أو طاولات المقاهي، ففي حين أن الطبقات الاجتماعية ربما تكون غير متجانسة، “فإن المشاعر العميقة التي تثيرها الألوان الوطنية والنشيد الوطني والترقب العصبي ليوم المباراة تؤدي عموما إلى جبهة موحدة ضخمة تنوب عن كيان وطني جماعي”.

ومن جهة ثانية عملت كرة القدم معادلا اجتماعيا في ظل عدم التجانس الثقافي بين الفئات، ذلك أنه حتى الأوساط النخبوية التي تستخدم كليشيهات مثل “الكرة أفيون الشعوب” و”أداة السلطة في الإلهاء والسيطرة على الجماهير” وجدت نفسها مندمجة في التعبيرات الشعبية عن الاعتزاز والاحتفال بانتصارات الفريق الوطني، “فالشغف والجنوح والخروج على المألوف الذي لازم هذه اللعبة هو ما يمثل روحها المتوقدة”.

إن كرة القدم ليست مجرد ظاهرة ثقافية أو مادة لاصقة اجتماعية تربط عناصر مجتمعية متنوعة، ولكنها ظاهرة اجتماعية بحد ذاتها. وفي هذا الإطار فقد أسهم الفريق المغربي في إذكاء المشاعر القومية، إذ لا تبدأ مباراة له إلا ويسبقها عزف النشيد الوطني الذي ترافقه مشاعر الحماس الملتهبة، وهي مناسبات لتعزيز الوطنية بين المشجعين ورفع مستوى الفخر الوطني لديهم.

دون قصد ربما، دمج تشجيع المنتخب الوطني بين أبعاد متعددة للهوية المحلية، فقد شكل دعاء الجماهير بالتوفيق للمنتخب الوطني مزيجا بين الرياضة والوطنية والدين في لحظة لقاء صوفي نادرة. “تمثل روابط مشجعي كرة القدم نموذجا للهوية في زمان الحداثة المتأخرة، تلك الجماعات تبرز هويتها لخلق معانٍ رمزية جديدة، وذلك استنادا إلى رؤية بورديو للرياضة بأنها مجال اجتماعي مستقل له ديناميكيته وتاريخه، حيث تقوم الجماهير بإنشاء سردياتها وأنماط سلوكها”.

وعلى الرغم من أن جوهر كرة القدم يدفع إلى القول باعتبار صورة المنتخب المغربي في مونديال قطر أحد أشكال الفعل الاجتماعي المحايدة سياسيا فإنه تم دمجها على الفور في السياسة الوطنية الاحتفالية للدولة، وقد ظهر ذلك في مشاركة ملك البلاد في حماس المواطنين وشغفهم بمنجزات الفريق الوطني، فعلى خلاف اعتباره صانع السياسة الرياضية للبلاد، ظهر عاهل البلاد مستهلكا للفرجة الكروية، أي مشجعا بالمعنى الحرفي، حيث التقطته الكاميرات وهو يلبس قميص الفريق الوطني ويستمتع إلى جانب باقي الجماهير بنجاح منتخب بلاده.

في الوقت نفسه فقد سمح الشعور المشترك بالوحدة الوطنية والهوية مع مؤازرة الفريق الوطني بأن تصبح كرة القدم مجازا لرفاهية البلاد وإمكاناتها، حيث الانغماس الانفعالي في التشجيع قد يكون تعويضا عن بعض الطموحات الوطنية غير المنجزة، كما أن المواطنين المثقلين بضغوط ضِيق العيش صاروا ينظرون إلى كرة القدم باعتبارها فرصة للترقي الاجتماعي، خاصة حينما يعاينون أن جل لاعبي المنتخب الوطني أتوا من أوساط اجتماعية صعبة الحال، ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا ذواتهم ويحققوا المجد لأسرهم ووطنهم.

تحقق الرياضة ما تعجز عنه السياسة، وقد تكون وسيلة سياسية في بعض الأوقات، تُعبِّر بها الدولة عن عمل سياسي، حيث إن حصيلة مشاركة المنتخب في المونديال ستسهم في تحسين صورة الجامعة الملكية لكرة القدم (الاتحاد المحلي للعبة)، في الوقت الذي ظل الجمهور المغربي ينظر إليها باعتبارها جزءا من عملية إنفاق ضخمة من ميزانية الدولة على عدد قليل من الأفراد في ظل نتائج محدودة، بل أكثر من ذلك فإن حصيلة فوزي لقجع رئيس الجامعة بصفته سياسيا ووزيرا ستتأثر اطراديا بالحصيلة الإيجابية للمنتخب بصرف النظر عن الموقف الشعبي من الحكومة كلها.

 دبلوماسية العشب الأخضر

(الأناضول)

تخضع معايير قوة الدول في العصر الحالي لتغييرات عميقة، حيث تنضم القوة الناعمة إلى القوة الصلبة، وفي هذا الإطار “فالرياضة تتحول اليوم إلى مجال القوة الناعمة التي تحتل فيها صورة البلد مكانة أهم، وتتبوأ فيها الرياضة رمزية خاصة، بوصفها أداة لتلميع الصورة وإبرازها، يضاف إلى ذلك أن الرياضة بتألقها الدولي الذي تسبغه على الدول والنجوم باتت تتجاوز الحدود الوطنية”.

في ضوء ذلك تمثل كرة القدم أحد مصادر القوة الناعمة للدول المختلفة، فهي مكون رئيس في الثقافة الشعبية للمجتمعات، ولعلنا نلاحظ الاهتمام الكبير من قِبَل غالبية الزعماء السياسيين في العالم بحضور المناسبات الكروية الكبرى لتشجيع منتخبات بلدانهم، ولذلك حرص الرئيس الفرنسي على حضور مبارتَي فريق بلده في الدورين نصف النهائي والنهائي لكأس العالم بقطر.

أصبحت كرة القدم لعبة معولمة تسهم في تحقيق الإشعاع العالمي، وتخدم أغراض الدبلوماسية العامة تماما مثل الأشكال الأخرى للثقافة، فهي ملاذ للدولة على الصعيد الخارجي واستمرار لدبلوماسيتها بوسائل أخرى، “فالرياضة الأكثر شعبية في العالم صارت إحدى أدوات الدول في بناء صورتها الذهنية، وإظهار مكانتها العالمية، ودرجة نفوذها وتأثيرها في الساحة الدولية”، وفي هذا الإطار فإن القفزة الرياضية التي حققها منتخب المغرب في مونديال قطر لا تكسب احتراما خارجيا للبلد فحسب، بل إنها تعزز مكانته الدولية، حيث إن نتائجه الباهرة ستدفع الناس الذين يجهلونه عبر العالم إلى الاهتمام به.

إن الرياضة الدولية هي كفاح وطني ترمز فيه الفرق الوطنية إلى الأمم، ولا يتعلق الرمز الوطني بالفوز باللعبة أو خسارتها فحسب، بل يتعلق أيضا بعرض هوية وطنية محددة في بيئة بطولة دولية، كذلك فكرة القدم لعبة لا تعترف بمكانة الدول ولا إمكاناتها العسكرية والمادية، وهي لعبة قادرة أن تكسر هرم العالم الاجتماعي بين مَن في الأسفل ومَن في الأعلى.

ليس أعضاء الفريق وحدهم مَن أسهم في هذا الإنجاز بالنسبة للمغرب، بل الجماهير أيضا التي كانت وراء أحداث صناعة الفوز أو طقوس الاحتفال. (غيتي)

يتجاوز تحقيق النصر في مباراة لكرة القدم إذن مجرد اعتباره نصرا رياضيا، ويمكن اعتباره “مسألة فخر وطني ومسابقة لإظهار تفوق دولة على غيرها، ولأنه يكلف أقل بكثير من الحرب العسكرية فيمكن لجميع البلدان استخدامه بغض النظر عن حجمها أو نفوذها أو قوتها”، بل إن كرة القدم صارت هي نفسها مصدر قوة بالنسبة للدول، حتى إن “الدولة لم تَعُد محددة بالعناصر التقليدية الثلاثة وحدها (الإقليم، والسكان، والحكومة)، ولكن أيضا بعنصر رابع (فريق كرة القدم الوطني)”، وهكذا فالمغرب الذي يتأخر على مستويات عدة أمام دول واجهها فريقه في المونديال نجح في تحقيق إنجاز كروي وتفوق عليها، ذلك أنه حينما يكون الرهان هو الفوز في ظل اشتباك منتخبات الدول على الكأس العالمية فإن هزيمة الفريق المنافس “هو طموح ربما يكون أقرب إلى مفهوم القوة الصلبة بدلا من الدبلوماسية”.

لم يكن الفوز مع التقدم في المباريات المظهر الوحيد الذي أدى إلى نجاح دبلوماسية كرة القدم المغربية في مونديال قطر، حيث حظي الفريق الوطني بالتقدير منذ مباراته الأولى التي تعادل فيها مع كرواتيا، بل حتى مع انهزامه أمام فرنسا في الدور نصف النهائي، فقد حافظ على نفس مستوى الإعجاب العالمي الذي راكمه من فوزه على فرق كبيرة، ذلك لأن “الأسلوب واللعب النظيف والكرامة والروح الرياضية، خاصة في حالة الهزيمة، يُعامَل على أنه يتمتع بقيمة متساوية من الناحية الدبلوماسية”.

لقد قدمت بطولة كأس العالم، التي تصل مشاهداتها إلى مليارات الأشخاص عبر العالم، منصة سانحة للمغرب لا مثيل لها من قِبَل أي هيئة ثقافية أو سياسية دولية، حتى لو كانت الأمم المتحدة وأجهزتها، وقد أسهم فيها لاعبو الفريق الوطني بالدعاية والترويج لبلدهم على نطاق واسع ربما لم يجسده السياسيون والدبلوماسيون، ذلك أن مثل “هذه الأحداث الدولية الشمولية المنتظمة يصبح لها تأثير عالمي”.

وإذا كان النجاح في الملعب يُفسَّر على أنه أفضل شكل من أشكال دبلوماسية كرة القدم فليس أعضاء الفريق وحدهم مَن أسهم في هذا الإنجاز بالنسبة للمغرب، بل الجماهير أيضا التي كانت وراء أحداث صناعة الفوز أو طقوس الاحتفال، ففي حين أن دبلوماسية كرة القدم تقوم على وظيفتَي التمثيل والاتصال فقد اضطلع اللاعبون بوظيفة التمثيل فكسبوا القلوب والعقول عبر أرجاء العالم، ليس فقط بأدائهم بل بقيمهم الثقافية العائلية والتضامنية والدينية، لأن “الرياضة، وكرة القدم على وجه الخصوص، لا ينبغي أن تُعامَل فقط باعتبارها شكلا من أشكال الترفيه أو أوقات الفراغ، ولكن بوصفها مكانا للإنتاج الثقافي، حيث يتفاوض المعجبون ويعيدون التفاوض على هويات متعددة”.

أما الجمهور فقد جسَّد وظيفة الاتصال وروج لصورة أمة، وهكذا توحد الطرفان حول رسالة التسويق لفكرة وطن، فأسهما معا في أن يكون المغرب في دائرة الضوء في كل وسائل الإعلام الدولية، ويحظى باعتزاز إقليمي عربي ملحوظ، ويجسد الأمل القاري إفريقيّا، بل إن الإنجاز غير المسبوق الذي حققه المغرب عزز الدعم للمنطقة العربية بموازاة نجاح قطر في تنظيم المونديال، حيث بطولة 2022 هي الأولى التي تقام في بلد عربي، وفيها يستطيع بلد عربي كذلك أن يحقق الاستثناء على مستوى الأداء.

باستحضار منظور القوة الناعمة الذي يتجاوز خرائط القوة الدولية للشمال المتقدم والجنوب المتخلف، ويتناسب مع الرياضة الأكثر شعبية في العالم، فإن الشهرة الكبيرة التي حازها الفريق المغربي في مونديال قطر والمكانة الدولية للبلد تجعله يرتقي إلى اعتباره قوة ثقافية تحقق أهدافا سياسية، ففريق كرة القدم إذ يجسد الدولة والصورة الرمزية للأمة فإنه يسهم بشكل كبير في شعبية البلد بنفس الكيفية التي تعمل بها العوامل الثقافية الأخرى.

لقد أثبتت كرة القدم أنها وسيلة فعالة من بين وسائل أخرى لتحقيق غايات الدولة السياسية، ذلك أنه إذا كانت السياسة تتعلق بالرسالة والدبلوماسية تتعلق بطريقة توصيل الرسالة، فإن “دبلوماسية كرة القدم تأخذ شكل هجوم ساحر، وهي حملة محسوبة مصممة لكسب الإعجاب والتأييد والدعم، يُنظَر إلى كرة القدم على أنها تصدير ثقافي آخر يعطي رؤية عامة للأمة بصفتها نموذجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وطريقة حياة يجب احترامها والإعجاب بها والوثوق بها وربما تقليدها”.

إن الحديث عن “الجغرافيا السياسية لكرة القدم” يدفع للقول دون مبالغة إن تلك اللعبة الظاهرة الأكثر عالمية اليوم، حتى إنها أكثر عالمية بكثير من القيم السياسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ إنها متفردة في استقطاباتها، وذلك بوصولها إلى الأوساط الأخرى من غير النخب، ولذلك فالمعجبون بالفريق المغربي في مونديال قطر لا يكترثون للأوضاع الداخلية للبلد مثلا، بل إن ما يهمهم الإنجاز الكروي المحقق الذي جعل بلدا يتعثر في تحديات مختلفة، تتطلع دول أخرى إلى الاقتداء بمثاله، وهذا هو بالضبط سحر “دبلوماسية العشب الأخضر” التي تفوق قوتها حركية الحكومات ودبلوماسيتها العامة، ولعل في التاريخ شواهد أخرى، حيث “في أحلك ساعات دكتاتورية البرازيل كان هذا البلد قادرا على الحفاظ على صورة محببة بفضل كرة القدم التي عكست كرم ومهارة شعبها”.

_________________________________________

هذا التقرير مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى