Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
خبر عاجل

حركة العصر الجديد.. الروحانية الباطنية التي تزداد انتشارا في عصر العلمانية والعلم | سياسة


تشهد الروحانيات الباطنية الحديثة إقبالا متزايدا في الدول الغربية، فبالتوازي مع انحسار المسيحية وتمدد العلمانية تسعى هذه الثقافة لملء الفراغ الذي قصُرت عنه المادية، كما تبدو من أكثر العقائد مواءمة للتوظيف سياسيا واقتصاديا.

تعد “حركة العصر الجديد” (New Age Movement) المظلة الأوسع لمعظم النزعات الروحانية الجديدة، وهي امتداد لمذاهب الباطنية (الغنوصية) التي اختلطت بالسحر في العصور الغابرة وعُرفت باسم الشامانية، كما تستمد جذورها من وثنيات وفلسفات ضاربة في القدم مثل الهندوسية والبوذية والطاوية والأفلاطونية الجديدة، وكذلك من الطوائف الباطنية التي ظهرت من داخل الأديان السماوية مثل القبالاه اليهودية والغنوصية المسيحية والتصوف الفلسفي في الإسلام.

لم يكن الغرب بعيدا عن الممارسات الباطنية والسحرية طوال تاريخه، بدءا بما قبل التاريخ، ثم في ظل الحضارات الوثنية المتعاقبة، وحتى في ظل هيمنة الكنيسة خلال القرون الوسطى، وأيضا مع انتشار العلمانية في عصر النهضة وما بعدها. وفي القرن التاسع عشر الميلادي، خرجت تلك الممارسات من عالم الظل إلى الأوساط الفكرية مع تبني بعض المفكرين الفكر الباطني بصفته مصدرا للحكمة.

ظهرت في تلك الفترة حركات دينية باطنية كبرى، أولاها حركة “الفلسفة المتعالية” (Transcendentalism) التي نشأت على يد رالف إمرسون في أميركا الشمالية، معتمدة على الترجمات المبكرة للكتب الهندوسية المقدسة، فاعتنقت أفكار وحدة الوجود والبحث عن المعرفة بالحدس والعرفان الصوفي.

أما الحركة الثانية فهي “الفكر الجديد” (New Thought) التي أسسها فينياس كويمبي، حيث آمن بوجود طاقة حيوية تتسبب بالشفاء والسعادة، وحاول مزجها مع الفلسفة المثالية العقلانية، وفي الوقت نفسه كانت “حركة الأرواحية” (Spiritualism) تنتشر على يد فلاسفة يحاولون طرح تفاسير باطنية جديدة للكتاب المقدس، ويمارسون طقوس استحضار الأرواح و”الخروج من الجسد” عبر التأمل.

وأما الحركة الرابعة، والأكثر عمقا وشمولا، فهي التي أسستها الروسية هيلينا بلافاتسكي (توفيت عام 1891) تحت مسمى جمعية الحكمة الإلهية “الثيوصوفيا” (Theosophy)، حيث وضعت مؤلفات تصرّح بألوهية الشيطان “لوسيفر”، وأعادت صياغة الأساطير الباطنية المتراكمة عبر قرون بأسلوب موجه لعامة الناس، معتبرة أن الفلسفة الباطنية هي أصل كل الأديان والبديل الذي ينبغي انصراف البشرية كلها إليه كي تحقق التنوير وتبلغ نهاية التاريخ.

ومع انتشار هذه الأفكار وتغلغلها في أعماق الثقافة الغربية الحديثة، أطلق عليها علماء الاجتماع في سبعينيات القرن العشرين مصطلح حركة العصر الجديد اقتباسا من معتقدات الثيوصوفيا.

طقوس السحر وعبادة الشيطان كانت تُمارس سرًّا في أوروبا خلال القرون الوسطى (شترستوك)

البحث عن السلام والخلاص

بعد الحرب العالمية الثانية، اكتسبت الأفكار الباطنية شعبية هائلة، حيث شاعت بين الشباب الأفكار الهدامة والشكوكية وروح الانهزامية، وتعالت أصوات نبذ الحضارة المادية والعودة إلى الطبيعة بحثا عن السلام.

وفي الستينيات، بلغت ظاهرة “الهيبيز” (Hippies) ذروتها مع خروج حشود من الشباب إلى الأرياف وتجربة الحياة البدائية، وكان نمط حياتهم يعتمد على الإباحية وتعاطي عقاقير الهلوسة مع طقوس التأمل، فوجدت أفكار حركة العصر الجديد في هذه الفترة بيئة خصبة للانتشار.

وانتشرت في تلك الأجواء فكرة التمهيد لعصر الدلو، وهو العصر الجديد المنتظَر، الذي ستشهد فيه البشرية الوفرة والنعيم والتنوير الروحي، وستعيش وفقا لقوانين كونية تتخلص من كل الأديان والمعتقدات السابقة، وتنبذ كل أسباب الفرقة والصراع والحروب.

وتزامن ذلك مع انتشار شهادات يزعم أصحابها أنهم شاهدوا الأجسام الطائرة المجهولة (UFOs)، أو تواصلوا مباشرة مع كائنات غير بشرية، لا سيما بعد الدخول في حالات “ما بعد الوعي” عبر التأمل أو تعاطي عقاقير الهلوسة، حيث فُسرت هذه الظواهر بأن الكائنات الفضائية الأكثر ذكاء قد بدأت بالتواصل مع البشر لتسريع مرحلة انتقالهم إلى “عصر الدلو”، ولإنقاذهم من الإبادة بعدما شاهدوا تفجير قنبلتين نوويتين في هيروشيما وناغازاكي.

وبحسب هذه المعتقدات، يتطلب دخول الأرض في دورة تطورية جديدة المزيد من الكوارث، كالزلازل والفيضانات والأوبئة والحروب، في الوقت الذي تحرص فيه النخبة (أتباع حركة العصر الجديد) على التأهيل النفسي والروحي لتحقق شروط الاصطفاء، فهي التي ستحظى بالحماية خلال مراحل التدمير لتنجو وتعبر إلى عصر النعيم.

لا يقتصر أتباع الحركة على المؤمنين بالفضائيين، فهي تشمل أيضا جماعات أخرى تنتظر “أحداثا عظيمة” لتدمير الحضارة القديمة والدخول إلى العصر الجديد، كما تشمل مجتمعات طوباوية تعتقد أن العصر الجديد موجود بالفعل، وأن اكتشافه يحدث بتجربة فردية، كما هو حال مؤسسة فيندهورن (Findhorn) التي تأسست في أسكتلندا عام 1962، وما زالت حتى الآن تستقطب الأتباع من أنحاء العالم لتجربة نمط العيش المتوافق مع هذه الأفكار.

وينضم إلى الجماعات السابقة ممارسو طقوس اليوغا والتأمل وتقنيات العلاج بالطاقة، فقد لا يؤمن الكثير من هؤلاء بفكرة “عصر الدلو” وانتظار الخلاص، لكنهم يضيفون بعض المعتقدات والطقوس والممارسات إلى عقائدهم ونمط حياتهم، سواء لاعتقادهم بأنها مفيدة أو لملء الفراغ الروحي في حياتهم.

A general view shows Yoga enthusiasts performing Yoga in the mass yoga demonstration in the presence of Indian Prime Minister, Narendra Modi (unseen) at the Capitol Complex on the occasion of the second International Day of Yoga in Chandigarh, India, 21 June 2016. The UN has declared 21 June as the International Yoga Day after adopting a resolution proposed by Indian Prime Minister Narendra Modi's government.
الأمم المتحدة اعتمدت قبل بضع سنوات 21 يونيو/حزيران من كل عام يوما عالميا لليوغا (الأوروبية)

روحانية بلا دين

في أواخر عام 2018، نشر مركز بيو للأبحاث دراسة بعنوان “معتقدات العصر الجديد شائعة بين الأميركيين المتدينين وغير المتدينين”، وقال فيها إنه بالرغم من أن معظم البالغين الأميركيين يعرّفون أنفسهم على أنهم مسيحيون، فإن الكثير منهم يحملون أيضًا معتقدات “العصر الجديد”، بل يشاركهم في ذلك غير المنتمين للأديان أصلا.

وبحسب الدراسة، يؤمن 61% من المسيحيين الأميركيين بواحدة على الأقل من المعتقدات الرئيسية لحركة العصر الجديد، وهي تناسخ الأرواح، والتنجيم، والوسطاء الروحيون، ووجود الطاقة الحيوية في الأشياء المادية مثل الجبال والأشجار، والمعتقد الأخير هو الأكثر شيوعا.

واللافت في الدراسة أن 22% من الملحدين الأميركيين يؤمنون أيضا بواحدة على الأقل من تلك المعتقدات، أما النتيجة الأكثر غرابة لهذه الدراسة فهي اعتراف 56% من اللادينيين (وهي تشمل اللاأدريين) بإيمانهم بواحدة على الأقل من المعتقدات الباطنية، كما تبلغ نسبة اعتناقهم لفكرة وجود الطاقة الحيوية في الأشياء المادية 40%، مقابل 37% لدى المسيحيين.

وبالمجمل، يؤمن 62% من البالغين الأميركيين بواحدة أو أكثر من معتقدات حركة العصر الجديد، ويأتي على رأس هذه المعتقدات الإيمان بوجود الطاقة الحيوية الذي يعتنقه 42% منهم.

ونستنتج من هذه الإحصاءات أن الباطنيات الجديدة نجحت في اختراق عقائد غالبية المسيحيين الأميركيين بالرغم من التعارض الشديد فيما بينهما، كما نجحت في تقديم البديل الروحي للمسيحية لدى أكثر من نصف الخارجين عن نطاق الأديان، بل تمكنت من إقناع أكثر من خُمس الملحدين بأن المادية لا تفسر كل شيء.

Revellers celebrate the summer solstice at Stonehenge on Salisbury Plain in southern England, Britain June 21, 2015. Stonehenge is a celebrated venue of festivities during the summer solstice - the longest day of the year in the northern hemisphere - and it attracts thousands of revellers, spiritualists and tourists. Druids, a pagan religious order dating back to Celtic Britain, believe Stonehenge was a centre of spiritualism more than 2,000 years ago. REUTERS/Kieran Doherty
أتباع جماعة روحانية في بريطانيا يتجمعون عند نصب ستونهنج الذي يعود إلى ما قبل التاريخ ببداية كل صيف لأداء طقوسهم (رويترز)

إعادة التشكيل

مع أن معظم الأفكار الباطنية ارتبطت تاريخيا بالحركات المعادية للأديان، ولا سيما في أوساط السحرة والجمعيات السرية، فإن الأديان الكبرى شهدت تغلغلا لتلك الأفكار أيضا بأشكال عدة.

وإذا قصرنا البحث على الدول الغربية في عصرها الحديث، فسنضرب مثالا بمحاولات القس السويدي إيمانويل سويدنبرغ في القرن السابع عشر لتفسير الكتاب المقدس برؤى باطنية، حيث زعم أنه تلقى المعرفة بتأملاته الصوفية الخاصة وأبحر في عوالم الغيب ليعيد تشكيل المسيحية بمفهوم جديد، وشجعت هذه المحاولات فلاسفة آخرين على شق طريقهم نحو هذه العوالم الغامضة من داخل الدين ودون مصادمة الكنيسة، بالتوازي مع المفكرين العلمانيين الذين يخترقون تلك العوالم دون خلفية دينية.

في الوقت نفسه، كان علماء مقارنة الأديان يترجمون النصوص الهندوسية والبوذية ويعرّفون المجتمع الغربي بتلك الثقافات الجديدة، لا سيما مع الاحتكاك المباشر في ظل الاستعمار، فاستورد البعض فكرة “الكارما” مثلا بعد دمجها بمفاهيم مسيحية كي يسهل فهمها، ثم تقبّلها.

في الجانب الآخر، أُدمجت بعض الأفكار الباطنية في المنظومة العلمانية من أبواب عدة، ومنها مثلا نظرية التطور الداروينية التي نبذت عقيدة الخلق، فمن خلالها تم إقحام بعض النظريات الباطنية لنشأة الخلق وتطوره، وأصبحت لدى البعض أكثر توافقا مع “العلم الحديث”.

أما علم النفس الحديث فكان بوابة واسعة للباطنيات المستوردة إلى أميركا وأوروبا، وخصوصا على يد سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ اللذين قدما مفاهيم جديدة لفهم النفس من منطلقات باطنية، لكن العالم استقبلها على أنها نظريات علمية معلمنة.

روحانية رأسمالية

قد يسبق إلى الذهن الاعتقاد بأن عوالم التجارة والمال أبعد ما تكون عن الروحانيات، فالأولى ترتبط بالجشع والمادية والاستهلاك بينما ترفع الأخرى راية الزهد في الدنيا والتطلع إلى الفلاح في العالم الآخر، لكن الغوص في تاريخ نشوء الأفكار يكشف أبعادا أخرى.

ففي بداية القرن العشرين، نشر عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” ليشرح فيه كيف ساعدت الأخلاق البروتستانتية في ظهور الرأسمالية الجديدة، انطلاقا من ربط السعي إلى الفلاح الأخروي بالنجاح الدنيوي.

وبالطريقة نفسها، تجد المنظومة الرأسمالية اليوم في الأفكار الباطنية سوقا استهلاكيا هائلا، فتقدم من خلاله ثقافة جديدة للسعي وراء النجاح، كما في برامج التنمية البشرية والتحفيز، وتحقق منه أيضا أرباحا ضخمة تتنوع بين برامج التدريب والأفلام والموسيقى والمنتجات الخاصة بنمط الحياة الموافق لهذه الثقافة.

وكما نجحت الرأسمالية في دمج المسيحية وأديان أخرى في منظومة السوق، حتى أصبحت الكنائس ودور العبادة الأخرى تبيع منتجاتها وخدماتها، فقد نجحت أيضا في تسويق حركة العصر الجديد وتحويل الكثير من أتباعها إلى مستهلكين في الأسواق الروحية الحديثة، حتى صار من الشائع تخصيص شوارع وأزقة في وسط المدن الغربية الكبرى لعشاق هذه الثقافة، يظهر فيها الطابع السائد للهيبيز وأمثالها في المقاهي والمطاعم والأسواق، كما يظهر هذا الطابع في خدمات ومنتجات شركات كبرى تستهدف هذه الشريحة التي تشكل جزءا كبيرا من السوق.

ستيف جوبز تأثر بالبوذية في شبابه وكان متمسكا بتقنيات الماكروبيوتك للشفاء حتى وفاته (غيتي)

انتشار متزايد

ساد الاعتقاد في نهاية القرن العشرين بأن الروحانيات الحديثة لم تكن سوى موضة عابرة تشكلت على يد الجيل الشاب الذي عانى من صدمة الحرب وتبعاتها، وأن شباب الهيبيز الذين خرجوا إلى الأرياف والغابات أو تجمعوا في حفلات الموسيقى والمخدرات لم يفلحوا في استقطاب الأجيال التالية، بل سرعان ما عاد الشباب إلى المكاتب والمصانع وانخرطوا في المنظومة الرأسمالية لتأمين أسباب الرزق ومواصلة الحياة.

ومع أن ظاهرة الهيبيز انحسرت بالفعل، فإن حركة العصر الجديد أعادت تشكيل قواعدها وعادت إلى المجتمع بصورة أقوى من السابق، فلم يعد الأمر يتطلب الانسحاب من الواقع إلى عالم طوباوي، بل يمكن أن نجد في الجامعات ومكاتب الشركات الكبرى طلابا وموظفين يجمعون بين النجاح المهني وبين اعتناق فكرة انتظار “عصر الدلو”، أو على الأقل ممارسة بعض طقوس العصر الجديد.

ومن الأمثلة التي حظيت بشهرة مثيرة للجدل، مؤسس شركة “آبل” ستيف جوبز الذي تأثر بالبوذية في شبابه، وظل وفيا لبعض أفكارها طوال مسيرته المهنية والعلمية الناجحة، وعندما أصيب بالسرطان وهو على رأس أغلى شركة في العالم امتنع عن العلاج الكيميائي ولجأ إلى فلسفة الماكروبيوتك الشرقية، حتى توفي وهو في الـ56 من عمره مع أن إصابته كانت قابلة للعلاج.

ولو دققنا النظر، سنجد أن أفكار حركة العصر الجديد تتغلغل بشكل متزايد في الكثير من الأفلام السينمائية من أبواب الخيال والأسطورة، كما تتسلل إلى البرامج التلفزيونية والكتب وبرامج التدريب المعنية بالتنمية البشرية والتحفيز وحل المشكلات النفسية والاجتماعية، وصولا إلى أوساط السياسة والمنظمات الدولية الكبرى من خلال ثقافة الحفاظ على البيئة ونشر ثقافة السلام.

وإلى جانب الدعم الذي تتلقاه هذه الأفكار من قوى متنفذة، فضلا عن الترويج الإعلامي الضخم، يبدو أن جزءا كبيرا من نجاحها يعود إلى قدرتها على التأقلم وإعادة التشكل لتجمع بين الأضداد.

فما بين الجانب الطقوسي السحري المفعم بالوثنية وعبادة الشيطان، وبين الجانب العلماني الذي يبحث في أسرار فيزياء الكم ونظرية التطور. وما بين الجماعات الفوضوية التي تؤمن بالعنف والأخرى الحالمة بعالم طوباوي ينعم بالسلام مع كل الكائنات، تجد حركة العصر الجديد لنفسها دائما من يقتنع ببعض أفكارها ويسهم في منحها المزيد من الانتشار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى