سيد قطب “في ظلال القرآن” (1) | آراء
أصدرت دار جسور للترجمة والنشر مؤخرًا طبعة جديدة من كتاب “في ظلال القرآن” لسيد قطب رحمه الله، وقد أعادت فيها طباعة النسخة الأولى التي أصدرها سيد قبل التعديل الذي اشتملت عليه الطبعة المتداولة بين أيدي الناس منذ سنة 1972 تحت مسمى “طبعة مزيدة ومنقحة”، والتي طبعتها دار الشروق بمصر واعتُبرت “النسخة الشرعية” -أي “القانونية”- ليتم تمييزها عن عشرات الطبعات التي طُبعت من دون إذن.
وقد أثارت هذه النشرة الجديدة من النسخة الأولى كثيرا من الاعتراض والجدل، وكان هذا قد بدأ -مبكرًا- مع الشيخ صلاح الدين الخالدي -رحمه الله- أحد دارسي سيد قطب؛ بمجرد أن عَلِم بنية إعادة إصدار هذه الطبعة النادرة التي نشرها سيد -بالتدريج- بين عامي 1952 و1959، ونُشرت في 30 جزءًا -حسب ترتيب القرآن- في “دار إحياء الكتب العربية” لعيسى الحلبي وشركاه، بدءًا من أكتوبر/تشرين الأول 1952. وكانت فكرة “في ظلال القرآن” قد ظهرت بداية عبر صفحات مجلة “المسلمون” التي أصدرت من الظلال 7 حلقات بين فبراير/شباط ويوليو/تموز 1952 (الفاتحة وجزء من البقرة)، ثم حلقتين أخريين فبراير/شباط ومارس/آذار 1954 (من الأنفال).
وكان سيد قطب قد أصدر -بين أكتوبر/تشرين الأول 1952 ويناير/كانون الثاني 1954- 16 جزءًا من الظلال، ثم سُجن لنحو 3 أشهر بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار 1954، وأصدر في أثناء السجن الجزأين 17 و18، ثم أكمل الأجزاء الباقية في سجنه الثاني الذي بدأ نوفمبر/تشرين الثاني 1954. وكان قد خرج عام 1964، ثم أعيد إلى السجن عام 1965، وبقي فيه إلى أن أُعدم رحمه الله تعالى. كان سيد قد نقّح كتابه وزاد فيه أواخر الخمسينيات في السجن، وبعد خروجه منه عام 1964، وفي أثناء سجنه الأخير الذي بدأ عام 1965، وهذه التفاصيل تضعنا أمام نص نامٍ (in progress) له دلالاته كما سأبين لاحقًا.
أوجه الاعتراض على النشرة الجديدة
يدور النقاش هنا على مسألة مركزية، وهي كيف نتعامل مع “في ظلال القرآن”؟ هل هو مجرد نص تجري عليه تقاليد نشر النصوص، أم ميراث شخص له حقوق قانونية وورثة؟ أم أيديولوجيا لها أوصياء وتتبع تنظيمًا محددًا كان سيد أحد قياداته؟ أم وثيقة تاريخية يمكن أن نتتبع ما جرى عليها من تبدلات، وأن نُشرك فيها عموم القراء أيضًا الذين من حقهم أن يكونوا شهودًا عليها؛ ما دام أن قطبًا نفسه أراد ذلك وهو شخصية عامة؟
الاعتراض على “إحياء” النسخة الأولى من الظلال له 3 مداخل:
المدخل الأول: المنظور الإخواني الحركيّ، وهو منظورٌ مثّله صلاح الدين الخالدي -رحمه الله- الذي شطح فرأى أن طبع النسخة الأولى “عبث” و”جريمة” و”لا يجوز شرعا ولا قانونا ولا عرفا ولا ذوقًا ولا أدبًا”. وحجته أن “سيد ختم حياته مع الإخوان”، و”كتب ما كتب بموافقة الهضيبي المرشد العام للإخوان”. فالعودة إلى النسخة الأولى “انهزام نفسيّ”. ومن المفارقة أنه رغم ذلك يقر -صراحة- أن النسخة الأولى من الظلال “كلام سيد فيها عادي جدًّا”، و”ليس فيها خطأ، ولكن ليس فيها إبداعات الطبعة المنقحة”. بل يتوسع ليرى أنه “مجرم من يظن أن السجن أثر على سيد”، وأنه “لو علم بعض أعداء سيد في الخليج وغيره نية بعض الإخوان بالطبعة الأولى من الظلال فسوف يرقصون ويصفقون فرحا”.
من الواضح أن هذا الاعتراض يصدر عن تصور أيديولوجي لا يرى في سيد إلا فكره “الإخوانيّ” في مرحلته التنظيمية، وعن عقائدية صلبة تجرم أي محاولة لفهم أو تفسير تحولات قطب وأثر السجن فيها؛ لأن هذا سيخل بيقينها بأفكارها “الربانية” التي يتحول فيها ظلال سيد إلى القرآن نفسه فتتلاشى المسافة الفاصلة بين النص وبين التفسير أو “الخواطر” التي قدمها سيد نفسه كذلك.
المدخل الثاني: المدخل الفيلولوجي الذي يقوم على نشر آخر نسخة صدرت عن المؤلف أو مات عنها، أو الإبرازة الأخيرة أو العرضة الأخيرة أو ما شابه ذلك. ولا بد هنا من توضيح أننا لسنا أمام نشر نسخة خطية أو “خاصة”، بل أمام إعادة طباعة نسخة كانت متداولة بالفعل، وهي متاحة لمن يطلبها على نطاق ضيق، والأجزاء الستة الأولى من هذه النسخة متاحة على الإنترنت أيضًا، والـ30 جزءا متاحة -على نُدرة- في بعض المكتبات العامة والخاصة؛ فالتعامل مع “مطبوع” أو نسخة متداولة وفق النظام القديم يختلف عن التعامل مع نسخة خاصة بالمؤلف. كما أنه ليس لدينا نص من سيد قطب نفسه يتبرأ فيه من نسخته الأولى، أو يحظر فيه إعادة طباعتها أو تداولها. وأخيرًا لا بد هنا من التمييز بين مستويين: تحري “آخر” ما انتهى إليه المؤلف، وجواز أو حظر نشر النسخ السابقة التي صدرت عن المؤلف نفسه.
فههنا مسألتان منفصلتان؛ إذ كل النسخ تمثل المؤلف في واقع الحال، ولكنها لا تمثل “رأيه الأخير”، ومن ثم فيمكن للأفكار أن تكتسب قيمتها التاريخية بمعزل عما إذا كانت تمثل آخر ما انتهى إليه المؤلف أم لا، وهنا تكتسب إعادة نشر نسخة قديمة قيمةً تاريخية.
المدخل الثالث: الاستعانة بفكرة النسخ للاعتراض على إعادة طبع النسخة الأولى من الظلال، وأن ما كتبه المؤلف أخيرًا يُعتبر ناسخًا لما كتبه أولًا. ولا بد من التذكير بأن فكرة النسخ إنما صيغت للتعامل مع نصوص الوحي (القرآن والحديث خاصة)؛ لأن الشارع منزه عن وقوع التعارض أو التناقض في نصوصه، كما أن النسخ يطلق على التخصيص كذلك، وهو محل خلاف بين العلماء توسعًا وتضييقًا، ثم إن المنسوخ لا يقتضي -بالضرورة- الإهمال كليةً، وأول من استعان بهذه الفكرة للحديث عن نصوص سيد هو صلاح الخالدي نفسه، وقد نقدتها قديمًا في بعض كتبي، ومن ثم فلا تصلح فكرة النسخ حجةً هنا لحظر إعادة النشر. ولو سلمنا بفكرة النسخ، فمن ذا الذي يثبت أن ما سبق من نصوص سيد هو منسوخ؟ هذا تعميم غير دقيق ولا يعبر عن حقيقة التغييرات التي قام بها سيد على نصوصه؛ فالنسخة الأولى تعبر -بدقة- عن “التفسير الجمالي” للقرآن، وهو ما لم يغيّره سيد، فضلاً عن أن زياداته التي تعبر عن “التفسير الحركي” لا تنقض ما كتبه سابقًا، وسأفصل في الفروق بين النسختين في مقال لاحق، بإذن الله.
لا شك أن المنظور الفكري النقدي والمنظور البحثي التحليلي يختلفان عن المداخل الثلاثة السابقة؛ إذ إنهما يتعاملان مع نص نامٍ ومنفتح على التغيرات، سواء التحريرية أم المنهجية أو الفكرية المشتبكة مع تحولات الكاتب نفسه وتحولات ما يجري من حوله؛ لأن سيدًا شرَط على نفسه -منذ البداية- أن ينفعل بالقرآن، وأن يكتب خواطره هو حول القرآن وما يجول في ذهنه في أثناء تَفَيّئه ظلالَه.
أي أن “الظلال” كتابٌ يقوم على التجربة الفردية. ومن طبيعة التجربة الفردية الانفعالية أن تكون في تطور دائم؛ شأن انفعالات الإنسان المختلفة بنفسه وبمحيطه، ومن ثم فمن الطبيعي أن نكون أمام تعددية وتنوع؛ ما دمنا قبلنا من سيد أن يكتب “تجربته الفردية” مع النص، وأن يشتبك معه من منظور هذه التجربة الفردية لا غير. وهذا معنى أن “في ظلال القرآن” هو “خواطر”، وهي اللفظة التي لم يبرح سيد يكررها في طبعاته المختلفة. فنحن لسنا أمام أفكار أرضية وفهوم تخطئ وتصيب فقط، بل أمام تجربة شعورية وانفعالية “فردية” كذلك، ومشكلة قراء سيد أنهم حولوا تلك التجربة إلى “تفسير منهجي” و”تجربة” عامة، وهو ما حصل -جزئيًّا- مع بعض الحركات الجهادية، فما اعتبره محمد يوسف موسى ميزة لتفسير سيد هو نفسه محل الإشكال فيه في الوقت نفسه (سيأتي نص موسى لاحقًا).
ربما لو امتد العمر بسيد وعايش التطورات السياسية والفكرية اللاحقة على إعدامه، لكان لدينا سيد جديد. هكذا كان ديدنه لمن تتبعه وتتبع تطور كتاباته وأفكاره؛ فقد كان يغير ويتغير كل نحو 10 سنوات تقريبًا، الأمر الذي يؤكد مجددًا أن الأفكار تنبت في الأرض ولا تهبط من السماء؛ كما يعتقد القطبيون العقائديون
ملحوظات على النشرة الجديدة
من خلال قراءتي لأجزاء من المجلد الأول من طبعة دار جسور، بدا لي عليها بعض الملحوظات، وتتلخص في الآتي:
الأولى: ثمة عبارات ربما أوقعت في اللبس وسوء الفهم، فقد كُتب على غلاف طبعة جسور: “جمع وإصدار الطبعة الأولى كاملة”، وقد تكرر استعمال كلمة “جمع” في مقدمة النشرة الجديدة، حيث ورد الآتي: “فقررت أن أجمع الكتاب كما هو”. ولا شك أن المقصود بالجمع هنا إعادة صف الكلام وتجهيزه للطباعة، ولكن تَوهم بعضهم أنه تم جمع نصوص سيد المختلفة، ولذلك طالب بعضهم بعدم وضع اسم سيد على الغلاف!
ومثل هذا الالتباس أيضًا نجده في بعض نصوص صلاح الخالدي -قديمًا- الذي قال: إن الطبعة الأولى من الظلال لم تكتمل قطعًا، في حين أن النسخة الأولى من الظلال متاحة كاملة في 30 جزءًا مفردًا وأعرف في قطر من لديه منها نسخة عتيقة، ولكن التبس في كلام الخالدي وجود طبعة أولى وثانية متممة للأولى من النسخة الأولى، وطبعة مزيدة ومنقحة هي الثالثة، وكلها طُبع في حياة سيد قطب فصار المجموع 3 طبعات (طُبع بعد ذلك طبعات عديدة بعد إعدامه).
يبدو أن تفسير الجزء الأول من القرآن من النسخة الأولى قد طبعه عيسى الحلبي طبعة ثانية بعد أن نفد خلال 3 أشهر. وهنا لم يعدّل سيد مقدمة الظلال في الطبعة الثانية بل أضاف هامشًا نصه: “مقدمة الطبعة الأولى، ولم أجد ما يدعو إلى زيادة شيء عليها”، وسنجد هذا الهامش في طبعة جسور التي يُفترض أنها “الطبعة الأولى” وهو مأخوذ عن الطبعة الثانية للجزء الأول، وهذا قد يوقع القارئ في لبس أيضًا.
الملحوظة الثانية: أنه في مقدمة النشرة الجديدة (ص12)، جرى استعمال تعبير “الطبعة الأصلية الأولى“، أي نسبة إلى “الأصل” قبل التنقيح والزيادة عليه من قبل سيد رحمه الله، وفي الواقع أننا أمام “أصلين” صدرا عن المؤلف نفسه، ولكن بتاريخين أو منهجين مختلفين. وتسمية “الأصل” مما يسهم في تأجيج النزاع بين طرفين: طرف يريد أن يكتفي بالأصل الأول وطرف يريد نسخ الأصل الأول لصالح الأصل الثاني، في حين أن الأصلين للمؤلف، ومن مجموعهما نقف على تطور المؤلف الفكري، وهما وثيقتان مهمتان لجهة دراسة فكر الرجل والبحث في العوامل المؤثرة فيه من بنية وجدانية وتكوين أدبي وتفاعلات سياسية واجتماعية وفكرية، بل وحزبية أيضًا حيث كان لانضمامه للإخوان تأثيره على فكره.
أي أن التمحور حول فكرة السجن هو اختزال للمشهد، فضلاً عن أن بعض النسخة الأولى كُتب داخل السجن أيضًا، وبعض النسخة الثانية كُتب خارج السجن، ولكن لا شك أن السجن جزء من تجربة مركبة ومعقدة.
الملحوظة الثالثة: أن النشرة الجديدة لدار جسور اكتفت –فقط– بالإشارة “إلى بعض مواضع في الهوامش للمقارنة بينها وبين الطبعة الأخيرة” من الظلال، أي أنها لم تستقص ذلك وهو عمل انتقائيّ، وقد أورد الصديق الشيخ عصام تليمة (الذي أعدّ هذه النشرة الجديدة) نقطتين في مقدمته:
الأولى: أنه آثر أن ينشر دراسة مفصلة مستقلة عن الكتاب
والثانية: أنه يطمح -في طبعة قادمة- إلى “خدمة الظلال خدمة علمية” على حد تعبيره، سواء من حيث الأفكار أو من جهة الاعتراضات الموجهة إلى الظلال، بالإضافة إلى الفهرسة التفصيلية (علمًا بأن ثمة فهرسًا موضوعيًّا تفصيليًّا للظلال نُشر في السبعينيات، ويبدو أن صلاح الخالدي الذي ناقش رسالته في الثمانينيات لم يقف عليه أيضًا؛ لأنه تحدث عن شيء شبيه به!).
أي أن النشرة الجديدة من الظلال هي مجرد إعادة طباعة للنسخة الأولى مع مقدمة فقط، وليست نشرة تتوفر على توثيق النصوص والمقارنة بين النسخ ورصد التعديلات؛ للخروج بدراسة تحليلية تُفيد عموم قراء الكتاب.
وهنا لا بد من التمييز بين التحقيق وما أسميه هنا “التحقيق المعكوس”، ففي التحقيق يسعى المحقق إلى الوصول إلى النسخة التي يرتضيها المؤلف وتعبر عن آخر ما انتهى إليه، أما في التحقيق المعكوس، وهو إعادة طباعة نسخة أولى يكون الهدف هو العودة إلى النسخة الأولى لرصد ما طرأ عليها من تغيير؛ لتأريخ فكر الرجل والبحث في دواعي التغيير لديه، وهل التغيير في الصياغة فقط (تحريري) أم طال المفاهيم والأفكار والمنهج نفسه؟ وهل وقعت فيه تصحيحات لأخطاء وقع فيها المؤلف؟ أي أننا في التحقيق المعكوس نراقب تشكلات النص. وبعض المعترضين على نشرة دار جسور خلط بين هذين الأمرين، خاصة ممن له عناية بتحقيق النصوص فظن أن قواعده تجري هنا!
إن إتاحة النسخة الأولى من الظلال للباحثين فقط، هو عمل تقني الطابع، ويمكن أن يتم بطرق مختلفة كطبعة محدودة التداول مثلاً أو نشرة إلكترونية. كما أن مجرد إعادة الطبع من دون إرفاقها بدراسة توثيقية تحليلية للنص هو كالاعتراض على إعادة الطبع من حيث المبدأ؛ سواء بسواء. كلاهما لا يخلو من دوافع أيديولوجية؛ بحيث يغدو الصراع هنا كما لو كان حول أي سيّد نُثبت وأيهما ننسخ.
ثمة فريق يخشى من استعادة سيد الأول، سواء جلس إلى جانب سيد الثاني أم حلّ محله؛ لأن هذا سيُربك المشهد بالنسبة له. ولا شك أننا أمام سيد في مرحلتين مع الظلال، ولو تتبعنا كتب سيد وأعماله الأخرى سنجد أنفسنا أمام 3 أو 4 مراحل لسيد وليس اثنتين فقط، وربما لو امتد العمر بسيد وعايش التطورات السياسية والفكرية اللاحقة على إعدامه، لكان لدينا سيد جديد. هكذا كان ديدنه لمن تتبعه وتتبع تطور كتاباته وأفكاره؛ فقد كان يغير ويتغير كل نحو 10 سنوات تقريبًا، الأمر الذي يؤكد -مجددًا- أن الأفكار تنبت في الأرض ولا تهبط من السماء؛ كما يعتقد القطبيون العقائديون، سواء من الإخوان أم من السروريين.
الملحوظة الثالثة: أنه جاء في مقدمة النشرة الجديدة لدار جسور أن “أفكار سيد التي وضعها فيما بعد هي دخيلة على التفسير… وقد كان -رحمه الله- يتوسع ويطيل فيها النفس بشكل لا يتطلبه شرح الآيات”. ولكن تبين لي من المقارنة بين نسختي الظلال أن الأمر على العكس؛ فسيد في النسخة المزيدة والمنقحة صار أقرب إلى “التفسير”، في حين أنه في النسخة الأولى لم يكن يكتب تفسيرًا بالمعنى الاصطلاحي، ولعل هذه النقطة تزيد وضوحًا في المقال القادم.
أهمية النسخة الأولى من الظلال
العودة إلى النسخة الأولى من الظلال لها أهميتها إذن، سواء في تاريخ الأفكار أو في التفاعل مع النص والواقع من منظور التجربة الدينية الفردية، أو لإبراز نمط جديد هو التحقيق المعكوس؛ وذلك بالعودة من النسخة الأخيرة إلى النسخة الأولى لمراقبة تاريخ النص وتطوراته وعوامل التأثير فيه، وطبيعة المغيّر والمتغيّر.
وكما سبق، رغم أن الخالدي لا يرى في النسخة الأولى أي خطأ، فإنه يعترض على استعادتها؛ لأنه لا يراها متضمنة “للفتوح” التي فتحها الله على سيد في السجن، أي أنها ليست معبرة عن سيد الإخوانيّ الذي عاش حياته يدعو إليه؛ رغم أن الفكرة الإخوانية حاضرة أيضًا في النسخة الأولى من الظلال، أو على الأقل هذا ما أدركه محمد يوسف موسى في سنة 1953، ولم يكن إخوانيًّا في حدود علمي؛ فقد كتب مقالاً عن الأجزاء الستة الأولى من الظلال في نسخته الأولى، وأوضح فيه أن الإخوان “خلقوا جيلاً جديدًا” و”وعيًا إسلاميًّا قويًّا” لم يَعد يَقنع بما كتب الأولون، وأن “الأكفاء الذين تذوقوا القرآن” رأوا فيه ما يستحق البحث من “النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية حتى يكون من الممكن والميسور أن ينادى -بحق- بحكم وشريعة القرآن التي لا يصلح العالم إلا بها”.
من هؤلاء الأكفاء -حسب موسى- سيد قطب، وأن كتب التفاسير المعروفة “فرطت” في بيان “ما اشتمل عليه هذا الكتاب المعجز من نظم اقتصادية واجتماعية وسياسية”، في حين أن تفسير قطب تأتي أهميته من أنه “على غير النحو الذي ألفناه”. أي أن النسخة الأولى لم تخل من الأثر الإخواني في فكر قطب، ولكنها خلت من أفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير. ويمكن أن نلحظ من تعليق موسى وكتابات الخالدي وغيره من الحركيين التقليل من أهمية التفاسير التقليدية لصالح هذا النمط الحركي من التفسير المنفلت من تقاليد التفسير العلمية، التي حاول قطب نفسه في نسخته الثانية أن يرجع إلى شيء منها كما سأوضح لاحقًا.
يوضح لنا قطب نفسه أهمية العودة إلى النسخة الأولى من الظلال، حين يقول في مقدمته: “كانت تَعنّ لي في هذه الجولات خواطر متناثرة… كنت أكتفي بأن أعيشها ولا أسجلها فقد كان حسبي أن أعيشها”، “فسجلت كل ما يخالج نفسي”. “إنه ليكون كسبًا لا يعدله كسب لروحي أولا ولذاتي. وربما شاركني فيه الناس إذا أنا جمعته لهم في كتاب”، أي أن في النسخة الأولى كسبًا روحيًّا وجماليًّا لقارئها وفق منظور سيد نفسه، فالنسخة الأولى باقية على القصد الأول لمؤلفها الذي ما جاوز أن سجل خواطره وهو يحيا في تلك الظلال، ثم أراد أن يشاركه فيها غيره.
الملحوظة الأخيرة، التي أريد أن أختم بها هذا المقال الأول، هي أن سيد قطب كان قد اتبع نمطًا خاصًّا في التعامل مع النص القرآني الذي يعيش في ظلاله؛ إذ قسمه إلى مقاطع سماها دروسًا، وكل درس يربط بين مجموع آياته سبب ما، واستعمل في النص القرآني علامات الترقيم (إشارات التعجب والاستفهام، والنقطة، والنقطتين، والفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وغير ذلك)، بل إنه في بعض مقالاته التي كتبها في التفسير في المجلات كان يكتب النص القرآني كتابة إملائية حديثة، وقد تم تغيير ذلك كله في ما سمي “الطبعة الشرعية” التي أصدرها أخوه محمد قطب، كما غاب ذلك أيضًا عن النشرة الجديدة التي طبعتها دار جسور؛ ما يعني أنه حتى “الطبعة المزيد والمنقحة” لم تُنشر على وفق مراد مؤلفها. والله تعالى أعلم.