وثائق “جنيزة القاهرة”.. دونت تاريخ الشرق وهُربت خارج مصر واستفادت منها مراكز البحث الأجنبية | الموسوعة
250 ألف وثيقة تغطي 900 عام من تاريخ مصر والبلاد العربية ودول حوض البحر المتوسط والبلدان الآسيوية، توثق الحياة في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، تسمى “جنيزة القاهرة” وتحفظ معلومات تاريخية وحضارية مهمة.
وتعني كلمة “جنيزة” في اللغة العبرية “حجرة الدفن”، التي تتخذ مخزنا ملحقا بالمعبد اليهودي، وتطلق أيضا على أي مكان تخزن فيه الأوراق المكتوبة بالخط العبري.
ويعتقد يهود العصور الوسطى أن الأوراق المكتوبة بالعبرية تكتسب القداسة من هذه اللغة، التي يقولون إن اسم الله يتكون من حروفها، ويعتقدون أنه يجب ألا تمزق هذه الأوراق أو تحرق، بل تكرم وتدفن كما يدفن الميت.
البحث عن تاريخ
ومع مرور الزمن اندثرت هذه الحجرات واختفت معالمها، ولم تلق اهتماما إلا في التاريخ الحديث، حين حاول مؤرخو اليهود وكُتابهم البحث عن تاريخهم القديم، وبيان دورهم في الحضارات الإنسانية القديمة.
وكان لليهود بالفسطاط (في حي مصر القديمة) معبدهم الكبير “ابن عزرا”، لذلك تركز التنقيب عن “جنيزات” هذا المعبد في أواخر القرن الـ19، ونجح المنقبون في كشف جنيزة كنيس ابن عزرا وجنيزة جبانة البساتين، اللتين عرفتا ضمنا باسم “جنيزة الفسطاط” أو “جنيزة القاهرة”.
و”جنيزة القاهرة” يقصد بها الوثائق والمخطوطات التي كنزها اليهود في العصور الوسطى في معبد “ابن عزرا” بحي اليهود الربانيين بمصر القديمة، ومقابر اليهود في حي البساتين.
و”الجنيزا” أو “الجنيزة”، تكتب بالعبرية (גניזה)، هي مستودع تحفظ فيه الأوراق القديمة البالية من الكتابات اليهودية المقدسة المكتوبة باللغة العبرية ولا تجوز إبادتها.
ومن حين لآخر يتم إفراغ المستودع من محتوياته، لتنقل وتدفن في المقبرة دفنا شرعيا، وتم العثور في هذه “الجنيزة” على وثائق وكتب من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك بعض الوثائق المكتوبة بلغات يهودية أوروبية، مثل اللغة اليديشية.
ووثائق الجنيزة تعد جزءا من التاريخ المصري، لكن اليهود يعتبرونها إرثا ثقافيا يهوديا.
كنيس ابن عزرا
ويوجد كنيس أو معبد “ابن عزرا” بمنطقة مجمع الأديان بمصر القديمة، جنوب القاهرة، وكان يحوي مقتنيات نادرة ووثائق تؤرخ لليهود وعاداتهم وشكل حياتهم الاجتماعية في مصر، إضافة إلى قيمته المعمارية والأثرية المتميزة ومكانته التاريخية.
ويُنسب بناء المعبد إلى أبراهام بن عزرا في القرن الـ12 الميلادي، وقد أُعيد بناؤه في القرن الـ19، ويحمل قيمة معمارية وفنية كبيرة، فتخطيط المعبد مستطيل الشكل، وتبلغ مساحته نحو 3500 متر، وله واجهات أمامية خالية من الزخارف.
بينما صُمم من الداخل على الطراز البازيليكي، حيث ينقسم إلى 3 أروقة متوازية أوسطها هو الأكثر اتساعا، وبالرواق الأوسط توجد منصتان؛ تُعرف الأولى بأطلس المعجزة، والثانية منصة الصلاة (البيما).
وفي الطابق الثاني شرفة صلاة السيدات وتشغل 3 أضلاع، وفي طرفيها حجرتان للمقتنيات و”الجنيزة”، وتوجد خلف المعبد بئر للطهارة يتم الوضوء بمائها وغسل الأرجل قبل الدخول للمعبد.
ومعبد “ابن عزرا” بحي مصر القديمة بالقاهرة، الذي اكتشفت فيه مخطوطات “الجنيزة”، كان يُعرَف باسم معبد “إلياهو” نسبة إلى النبي (إيليا)، ويعرف أيضا بقصر الشمع.
وأول من علم بوجود “الجنيزة” في الفسطاط كان الرحالة اليهودي “سيمون فون غلورن”، الذي زار المعبد في سنة 1752 وألقى نظرة على “الجنيزة”، كما ذكر في يومياته.
جنيزة القاهرة
وتعتبر “الجنيزة القاهرية” التى عثر عليها بكنيس “بن عزرا” الأضخم على مستوى العالم، إذ وجدت محفوظة فى معظمها ولم يعترها تلف، كما قام علماء اليهود والغرب بالتنقيب على وثائق “الجنيزات” فى بلدان وأماكن عديدة مثل القدس والبحر الميت ولوبلين ببولندا وأريحا ودمشق وقاريم.
وعلى الرغم من هذا الانتشار للجنيزة، فعندما تذكر “جنيزة”، في المصادر اليهودية والتاريخية، فهي ترمز مباشرة لجنيزة القاهرة.
وتعود هذه الشهرة إلى أنها أول “جنيزة” يتم اكتشافها، كما أنها أقدم “جنيزة” عرفها التراث اليهودي، وهي الأضخم من حيث مادتها ومحتوياتها وقيمتها الدينية والتاريخية.
وتحظى وثائق “جنيزة القاهرة” بأهمية كبيرة عند الجامعات الأوروبية والأميركية والمؤسسات والمراكز اليهودية في العالم، إذ توزعت مادتها بين العديد من الجامعات والمؤسسات ومراكز البحوث في العالم، مما أكسبها شهرة تفوق أي “جنيزة” أخرى تم الكشف عنها فيما بعد.
وتعتبر الجامعات والمؤسسات البحثية والعلمية التي حصلت على مجموعات من أوراق “جنيزة القاهرة” أن ذلك مكسب علمي يستحق التفاخر به في الفضاء الأكاديمي.
وقامت كل جامعة بتصنيف مجموعتها من أوراق الجنيزة، وأصدرت دليلا يعرف بمحتوياتها، كما أنجزت بعض الجامعات دراسات خاصة بأوراق الجنيزة التي تخصها، وظهر في كل جامعة فريق متخصص من الباحثين في أوراق الجنيزة يقوم على تصنيفها وتبويبها وترميم التالف منها، وعمل الدراسات حول محتوياتها.
العصور الوسطى
وثائق الجنيزة ترجع إلى الفترة الممتدة من عصر الدولة الفاطمية حتى عصر الدولة الأيوبية، أي من نهايات القـرن الـ10 حتى أواسط القرن الـ13 الميلادي، ووثائق من العصرين المملوكي والعثماني.
ويرجع تاريخ بعض الرسائل والوثائق إلى منتصف القرن الـ19، وتعتبر الجنيزة التي عثر عليها في معبد ابن عزرا في القاهرة، من أهم مجموعات الجنيزة في العالم، لأنها الأكبر حجما والأكثر تنوعا.
لم يُكشف بعد عن كل أسرار “جنيزة القاهرة”، ويمكن القول إنها أكثر أهمية من مخطوطات البحر الميت الأسطورية، ومع ذلك فإنه لم يعرف منها بعد إلا تفاصيل قليلة.
وفي عام 1896، دخل “سولومون شيشتر” المخزن المقدس في كنيس معبد عزرا القديم بالقاهرة، واكتشف كنزا من المخطوطات التي أحدثت ثورة في فهم التاريخ اليهودي، وأضاءت ألف سنة من الحياة اليهودية في العالم الإسلامي.
وبتحليل وقراءة تلك الوثائق يتضح للعلماء أنها كتبت بـ3 لغات؛ العبرية والعربية المكتوبة بالعبرية والآرامية، وبعضها باللغة اليديشية.
وأوضحت أن اليهود لم يختلفوا كثيرا في مصر والدول المجاورة لها في العصور الوسطى عن جيرانهم المسلمين في أنشطتهم الاقتصادية وعاداتهم الاجتماعية، ولذا تعد الجنيزة أحد مصادر التاريخ الإسلامي والاقتصادي والاجتماعي في حقبة العصور الوسطى.
الأهمية والخطورة
وثائق الجنيزة لها أهمية كبرى، وقد صدرت عنها عشرات الأسفار باللغات الأجنبية والعربية، عن مواضيع مستقلة مثل المجاعات والحروب الصليبية والتجارة بين الشرق والغرب.
وتنقسم إلى مخطوطات أدبية عن الصلوات والشِّعر الديني وصفحات من التوراة على لفائف الورق أو البردي، أو ترجمات للتوراة إلى اليونانية، وقصص نثرية، و”المشناة توراه” وهو مؤلف ديني ضخم كتبه الحاخام والفيلسوف موسى بن ميمون (ت: 601هـ/ 1204م) صاحب “دلالة الحائرين”.
و”المنشاة توراه” أحد المؤلفات الشاملة والمرتبة والمؤثرة الخاصة بالشريعة والتوراة الشفهية بوجه عام، على مدار تاريخ الشعب اليهودي والتلمود، بالإضافة إلى مؤلفات في التنجيم والفلسفة والطب وتعاويذ ونصوص سحرية.
وتوسع يهود مصر في تحريم إبادة الأوراق المكتوبة، فاختزنوا الكثير منها ومنحوها قدسية خاصة، كما فعلوا مع مذكرات المفكرين والتجار اليهود، التي حوت معلومات عن الأوضاع في المجتمع الإسلامي.
طرق التجارة العالمية
واهتمت وثائق الجنيزة بصورة خاصة بالتجارة الخارجية، وهي تجارة المرور العالمية بين الشرق والغرب، ومعظم الخطابات التي حفظت في الجنيزة كانت لتجار أرسلوها أثناء سفرهم إلى بلاد الهند.
وفيها تفاصيل حول البضائع المنقولة، وخاصة البضائع خفيفة الحمل مرتفعة القيمة مثل التوابل، وأخرى مثل الحرير والبخور والعطور والأحجار الكريمة.
وتضمنت ملفات المحاكم عقود الزواج ووثائق الطلاق والوصايا وصفقات البيع والشراء وفواتير وشهادات عتق عبيد وإماء، كما حوت خطابات رسمية إلى السلطات وتقارير وشكاوى والتماسات ورسائل خاصة بجمع تبرعات من اليهود لأعمال الخير.
كما دوّنت تلك الوثائق شكل علاقة الرجل بالمرأة والأسرة في المجتمع اليهودي، ودور المرأة فيه وحظها من العلم والتعليم.
أما المعلومات العسكرية والتاريخية والسياسية فتوجد متفرقة في هذه الوثائق التي سطرت حياة الناس وما يتعرضون له من مصاعب وكوارث، مثل سيطرة المرابطين والموحدين على بلاد المغرب، والحروب البحرية المستمرة والقرصنة في البحر المتوسط.
تاريخ المجاعات
ومن تلك الوثائق وثيقة تتحدث عن المجاعات في القاهرة، وكيف أن الناس كانوا يهربون من المجاعات ليقعوا في قبضة قطاع الطرق، والوثیقة مكتوبة بلغة “الجودو عربي”، وھي عبارة عن رسالة كتبتها امرأة في القاهرة عام 1770 إلى زوجھا المقيم في الإسكندریة لممارسة تجارته.
أخبرته فيها بالمجاعة التي حدثت في القاھرة، وتصف له أنھا وأطفالھا كاد الطعام ینفد من عندھم وأن ما یرسله لھم من طعام لم یصل إلیھم، وتشكو الخطف الذي یحدث في النھار، وتشیر إلى ھروب سكان القاھرة إلى خارج البلاد للنجاة بأنفسھم.
وأخبرته كذلك أن تلك الأوضاع أخافتها وبناتھا فقررن الرحیل من تلك الديار قبل حلول الدمار، إن لم يقطع قطاع الطرق رحلتهن، وتنھي رسالتھا بالدعاء له والتعبير عن شوقھا إلیه.
براءة الحاكم بأمر الله
ومن الوثائق المهمة أيضا ما كان عن الشخصيات التاريخية الإسلامية المهمة من حكام وسلاطين وقادة، والتي صححت بعض المعلومات التي وردت في المصادر التاريخية عن هذه الشخصيات.
وأبرز الأمثلة تصحيح ما ورد عن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله الذي أجمعت المصادر التاريخية التي تحدثت عن الخلفاء الفاطميين على اضطهاده للمسيحيين واليهود خلال فترة حكمه، إذ عُثر ضمن وثائق الجنيزة على مخطوط عبري يرجع تاريخه إلى 1135، يمتدح الحاكم ويشبهه بالمسيح في عدالته، ويصفه بالحامي لغير المسلمين والمدافع عنهم ضد أي كيد يتعرضون له.
وخطابان يشيران إلى غزو الصليبيين لبيت المقدس سنة 1099، وترجع أهمية هذين الخطابين إلى ورودهما من القدس مكان الحادث وقت وقوعه، وخطاب عن هجوم حاكم كيش (قيس) على عدن سنة 1135م.
وخطاب آخر ورد من عدن يرجع تاريخه إلى عام 1202، يذكر الأحداث التي وقعت حين كان يحكمها الملك المعز ابن أخ السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويروي ظروف اغتيال الأمير الأيوبي وحلول أخيه الطفل مكانه في الحكم تحت وصاية الأتابك “سنقر” الحاكم الحقيقي للبلاد آنذاك.
وتضمنت “وثائق الجنيزة” أيضا مؤلفات بعض المسلمين باللغة العربية، وبعضها مكتوب بالأحرف العبرية، ما يؤكد اهتمام اليهود بأدب العرب والمسلمين، ما أثر في كثير من إنتاجهم الأدبي.
ومن أهم النصوص التي عثر عليها في جنيزة القاهرة النص العبري الأصلي لسفر حكمة بن سيرا، الذي تركه اليهود بسبب الخلاف حول قدسيته، أما المسيحيون فقدسوه، وبقيت ترجمته الأولى إلى اللغة اليونانية، بينما ضاع النص العبري، حتى تم العثور على نسخة عبرية قديمة في “جنيزة القاهرة”.
وعُثر في الجنيزة على نسخ قديمة لـ”الهاغادا”، وهي مجموعة النصوص الدينية والصلوات التي تقرأ خلال عشاء عيد الفصح اليهودي، ومن الجانب الديني التوراتي عثر في جنيزة القاهرة على ثروة كبيرة من الشعر العبري الديني (البيوط)، وهو تلاوة التوراة بأسلوب شعري أدبي أشبه بالطابع الصوفي الأسطوري.
مذكرات طبيب صلاح الدين
ومخطوطات الجنيزة تظهر السماحة الإسلامية التي كان ينعم بها الذميون عامة، وخاصة اليهود منهم في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي فتح لهم الأبواب للاشتغال بالأعمال الثقافية والمهن العلمية كالطب والصيدلة والاقتراب من دوائر الحكام المسلمين.
وترجع أهمية هذه المخطوطات إلى الكشف عن التاريخ الاجتماعي والسياسي للعالم العربي والإسلامي، من خلال أوراق عثر عليها للحكيم موسى بن ميمون، الطبيب والمستشار الخاص للقائد صلاح الدين الأيوبي إبَّان الحروب الصليبية؛ وهو ما يعني أنه شاهد تلك الحروب من داخل خيمة صلاح الدين، نُشِر بعضها، وبعضها الآخر طي الكتمان بجامعة كامبردج.
ويدلل المؤرخون على الأهمية التاريخية الكبيرة لوثائق الجنيزة، بسبب اتساع المدى الجغرافي الذي تغطيه هذه الوثائق، وتكشف عن طبيعة الحياة فيه، من خلال السجلات التجارية للتجار اليهود ومذكراتهم حول مشاهداتهم عن حياة شبه الجزيرة ومنطقة الخليج، التي تمثل سجلا تاريخيا تلقائيا للأوضاع العامة في تلك المناطق.
وكانوا يسلكون طريق التجارة عبر شبه الجزيرة العربية إلى الهند، سواء بالبحر أم بالبر ضمن قوافل التجارة الكبيرة، وبعد عودتهم إلى مصر ينقلون البضائع إلى المغرب عن طريق البحر المتوسط.
تهريب التاريخ
مع نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، اهتم الباحثون اليهود بهذه الجنيزة أثناء أبحاثهم، خاصة معبد ابن عزرا الذي لم تنقل الجنيزة به لتدفن بالمقابر لمدة ألف عام، والتي تم تهريبها خارج مصر.
ويوجد اليوم نحو 70% من مضمون جنيزة القاهرة في مكتبة جامعة كامبردج بإنجلترا، وخلال الحرب العالمية الثانية ضاعت بعض الوثائق التي كانت محفوظة في مكتبات بألمانيا وبولندا.
واستطاع المحاضر فى الدراسات التلمودية “Solomon Schechter” (سولومون شيشتر) نقل أكثر من 144 ألف وثيقة من جنيزة معبد ابن عزرا إلى جامعة كامبردج، وهربت إلى خارج مصر منذ ذلك الحين، ويحتفظ بها في مكتبات وأراشيف أوروبا.
معظم هذه الوثائق سربت خارج مصر منذ تسعينيات القرن الـ19 الميلادي، باعترافات وشهادات لحاخامات ومؤرخين وبعض أساتذة التاريخ اليهودي بجامعات إسرائيل.
وتقول هذه الشهادات إنه تم نقل 250 ألف وثيقة من وثائق الجنيزة يعود أقدمها إلى القرن الـ11 الميلادي، وأكثر من 200 ألف وثيقة من معبد ابن عزرا وحده.