مسرح الحرية.. الوجه الآخر للمقاومة في مخيم جنين | فن
اتخذ المسرح من غرفة فوق منزل لعائلة المقاوم والأسير الفلسطيني زكريا الزبيدي مقرا له، وأصبح زكريا نفسه ورفاق له أبطالا للعمل الفني، إلى أن غدوا أبطالا حقيقيين وقادة للمقاومة في مخيم جنين، لا سيما في معركة المخيم إبان اجتياحه خلال انتفاضة الأقصى عام 2002، حيث استشهد معظمهم وأسر آخرون كحال الزبيدي الآن
جنين- خارج “مدينة القمر”، أسس الفتى محمود السعدي لعمل فني ضخم، وأعد له مسرح الحرية بمخيم جنين شمال الضفة الغربية، وآثر بعد أشهر من التدريب والتحضير أن يجرب الواقع بدلا من التمثيل على خشبة المسرح، فارتقى شهيدا برصاص الاحتلال الذي اغتاله قرب مدرسته قبل أكثر من شهر.
منذ عام 2017، انخرط محمود (18 عاما) بمسرح الحرية، وشارك ورفاقه في التدريب والتحضير لأعمال فنية عدة، منها “مدينة القمر”، لكنه كان “متمردا” على كل شيء، حتى طفولته التي لم يعشها كالآخرين أمثاله.
ولم ير محمود -الذكر الوحيد بين شقيقاته- بالمسرح إلا مكانا ليثبت أنه “رجل”، بل قد يتمرد ويسخر من بعض الأعمال ويعدها “ساذجة” ما لم يظهر بها كـ “زلمة” (رجل)، كما تقول رنين عودة مدربته بمسرح الحرية للجزيرة نت.
بهذه الشخصية عكس محمود حال أطفال مخيمه جنين الذين يكبر تفكيرهم أعمارهم، ويعون جيدا ما يدور حولهم، وإلا لما كانت رصاصة الاحتلال اخترقت جسده وقتلت “أطيب قلب وأحن شخص من الممكن أن تعرفه”، تتابع عودة بينما تنهمك بعملية التدريب.
في محاولة للتخفيف من بؤس حياة المخيم، أرادت عودة (30 عاما) أن تعوض محمود ورفاقه شيئا من طفولتهم المسلوبة دون أن تسقط فكرهم المقاوم، لكنها عبثا تحاول، “فقد تشربوا بسن مبكرة قهر الاحتلال وظلمه”، تقول عودة التي باتت تتوقع في لحظة سماع اسم أحد رفاق محمود أنه ارتقى شهيدا.
المقاومة ديدن المسرح والمخيم
يعيد المشهد المقاوم ذاته الذي جسده الشهيد محمود السعدي لمسرح الحرية سيرته الأولى على يد مؤسسته آرنا مير خميس، وهي ناشطة يهودية متزوجة من المناضل الفلسطيني صليبا خميس، حينما أرادت التخفيف من معاناة الأطفال، فأنشأت المسرح تزامنا مع انطلاق انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وسمي حينها “بيت الطفولة”.
ما لبث أن تحول إلى “مسرح الحجر” (نسبة لانتفاضة الحجارة)، وقدم عمله الأول “القنديل الصغير”، والمأخوذ عن قصة الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، وفاز بجائزة عالمية. تمكنت آرنا من توسيع المسرح وتطويره وتنويع برامجه، ليواصل نجلها جوليانو خميس مشوارها بعد وفاتها منتصف تسعينيات القرن الماضي.
آنذاك، اتخذ المسرح من غرفة فوق منزل لعائلة المقاوم والأسير الفلسطيني زكريا الزبيدي مقرا له، وأصبح زكريا نفسه ورفاق له أبطالا للعمل الفني، إلى أن غدوا أبطالا حقيقيين وقادة للمقاومة في مخيم جنين، لا سيما في معركة المخيم إبان اجتياحه خلال انتفاضة الأقصى عام 2002، حيث استشهد معظمهم وأسر آخرون كحال الزبيدي الآن.
“كان زكريا الزبيدي أحد المؤسسين في مسرح الحرية وليس مجرد عنصر فيه”، يقول أحمد طوباسي المدير الفني واحد أبطال العمل في المسرح، بل إن زكريا شجَّع على إحياء المسرح بعد هدمه خلال الاجتياح، وكانت مقولته الشهيرة “المسرح هو الكلاشينكوف بالنسبة لي”، مؤكدا بذلك أن “فكرة المقاومة عبر الفن والثقافة لا تقل عن نظيرتها المسلحة ولا تسقطها أيضا”، يضيف طوباسي.
أولاد آرنا
كانت البندقية ما زالت بحاجة لثقافة وفن يدعمها ويحميها أيضا، وهو الشعور الذي استحضره جوليانو خميس إبان الاجتياح للمخيم عندما أنتج الوثائقي “أولاد آرنا”، والذي أعاد للمسرح حضوره محليا وعالميا، بعدما استحضر دمار المخيم ومقاوميه الشهداء الذين هم أبطال المسرح في الوقت نفسه.
ويظهر ذلك في صور وأعمال تشكيلية تزينت بها غرف المسرح وجدرانه والطريق المؤدي إليه، وتقارير صحفية عالمية مبروزة ومعلقة، تقص شيئا من حكاية الصمود والمقاومة التي جسدتها صورة للأسير الزبيدي وثلة من أطفال المخيم.
يعكس مجسم كرتوني للبندقية، وصورة لملثم بالكوفية الفلسطينية، وزيتونة معمرة غرست عند مدخله، إضافة لقمصان ملونة حملت عبارات المقاومة، يتم تسويقها لزوار المخيم لا سيما الأجانب، القاسم المشترك بين المقاومة بكل أشكالها.
ويقول طوباسي إن الفن لا يمكنه أن ينسلخ أو يكون بعيدا عن الواقع الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني، وليس هذا في اسمه فحسب، بل بأعماله التي تجاوزت الـ40، “فنحن نؤمن بثقافة المقاومة قبل المقاومة نفسها، ما يعني أن المقاومة غير محصورة بفئة أو بشكل معين، وأن الكل الفلسطيني ومن حيث موقعه يقاوم”.
وعدة الثورة
وعبر إنتاج أعمال فنية كاملة من ألفها إلى يائها استمر دور مسرح الحرية، كما استقبل عروضا مجتمعية عديدة، إضافة لإعداد الفنانين في مدرسة الدراما والتمثيل التابعة له، فضلا عن ورشات تثقيفية وبرامج تدريبية للنساء والأطفال، وأخرى ترفيهية يقدمها المسرح عبر الموسيقى والتهريج.
وعبر مشروع “وعد الثورة”، يبرز دور المسرح المقاوم أكثر، فهذا المشروع، يقول طوباسي، يسلط الضوء على معاناة فنانين من مضايقات الاحتلال وقمعه لهم محليا وعالميا، كالفنان محمد البكري ومحمد أبو سخا ورسام الكاريكاتير محمد سباعنة ودارين تتور وغيرهم العشرات من مختلف المناطق الفلسطينية، وهذا يعكس وحدة حال بين الفلسطينيين.
في مخيم جنين حيث ارتقى عشرات الشهداء هذا العام بينهم محمود السعدي الذي تغطي صوره أزقة المخيم، وآخرين من مثقفين ومقاومين فلسطينيين علت صورهم جدران مسرح الحرية.
نبذ “الإرهاب”.. شرط للدعم
ومن 17 عنصرا يحملون مسرح الحرية على عاتقهم، تراجع العدد إلى 4 فقط، بين فنان ومدرب وفني، وزادت تضييقات المانحين واشتراطاتهم الأمر سوءا، بعد وصفهم أي عمل مقاوم لإسرائيل “بالإرهاب”، وهو ما أفقد المسرح مصدرا أساسيا داعما على المدى البعيد، لا سيما بظل غياب الدعم المحلي المتمثل بوزارة الثقافة الفلسطينية وغيرها.
وفي جديد إنتاج مسرح الحرية تبرز أعمال حديثة كـ”مملكة الإيموجي” الخاصة بالأطفال وخيالهم مقارنة بالواقع، ومسرحية “الفيل” التي تناولت وضع الفلسطينيين بظل فيروس كورونا. ويتصدر “مترو غزة” الساحة الآن، وهو عمل أنتج بالكامل في المسرح ويحكي قصة فتاة تحلم بلقاء شخص في غزة، ويُضيع الحلم حواجز الاحتلال وعراقيله، وقد عرض بمسارح عدة في حيفا والقدس ورام الله.
من وجه مقاتل يظهر نصفه في العتمة والآخر في الضوء، وعلى شكل درع كتبت كلمة حرية بخط أبيض فوق أرضية حمراء يتخذ مسرح الحرية شعاره.