إدغار هوفر.. العالَم المُظلِم لمؤسِّس المباحث الفيدرالية الأميركية
مقدمة الترجمة
لا تخلو أفلام هوليوود التي تدور أحداثها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي من إشارات لما عاناه الفنانون والسياسيون في الولايات المتحدة بسبب تجسس المباحث الفيدرالية عليهم وتوغلها في حياتهم الخاصة تحت إدارة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي “إدغار هوفر”، الذي سعى بضراوة خلف المشاهير وغير المشاهير في خضم حملاته المستمرة لمكافحة الشيوعيين واليساريين و”المُخرِّبين”. فكيف بدأت أسطورة هوفر، وكيف انتهت، وكيف تعافى جهاز المباحث من حقبته الطويلة؟ هذا ما يناقشه “جاك غولدسميث”، أستاذ القانون بجامعة هارفارد والباحث بدرجة زميل بمعهد هوفر، في تقريره المنشور بمجلة “الأتلانتك” الأميركية.
نص الترجمة
بعد مرور خمسة عقود على وفاته، لا يزال شبح “جون إدغار هوفر” يطارد مكتب التحقيقات الفيدرالي، المكافئ لجهاز المباحث والمعروف بـ”إف بي آي” (FBI). فقد أصبحت فترة توليه رئاسة الجهاز، التي امتدت لما يقرب من 48 عاما بين عامي 1924-1972، رمزا للمخاطر التي يُشكِّلها وجود وكالة بوليسية استخباراتية محلية تعمل في الخفاء داخل مجتمع مفتوح. ويُنظَر إلى هوفر حاليا على نطاق واسع بوصفه استبداديا استخدم المراقبة السرية وغيرها من الوسائل غير القانونية للسيطرة على السياسيين واختراق الجماعات السياسية المحلية وعرقلتها، وذلك لخدمة نظرته المُحافِظة للعالم. وما من عملية تؤكد هذا الحُكم بوضوح أكثر من المراقبة الإلكترونية واسعة النطاق للناشط “مارتن لوثر كينغ” الابن، التي أطلقها جهاز المباحث وبلغت ذروتها برسالة تهديدية لكينغ مصحوبة بتسجيلات صوتية لمواعيد الرجل الغرامية، وهي خطوة خُطِّط لها بغرض إزاحة كينغ من حركة الحقوق المدنية التي نافحت عن حقوق الأميركيين ذوي البشرة السمراء في الستينيات، أو ربما دفع الرجل إلى الانتحار.
في سيرة هوفر الذاتية شديدة الإتقان، التي جاءت في 732 صفحة من إعداد المؤرخة “بِڤرلي غيدج” بجامعة ييل، ونُشِرَت بعنوان “رجل الحكومة: جيه. إدغار هوفر وصناعة القرن الأميركي”؛ تروي الباحثة بدقة جميع الانتهاكات الكبرى التي ارتكبها جهاز المباحث في عهده، كما توضح في الوقت نفسه أن الصورة الشائعة لهوفر باعتباره “طاغيا أحادي البُعد ومُدبِّرا خلف الكواليس أخضع البلاد بالقوة” ليست دقيقة أيضا. على النقيض، يظهر إدغار في كتابها شخصية مليئة بالعيوب بالفعل، لكنه يظهر لاعبا ضمن فريق من المؤسسات أكثر منه نموذجا للطاغية الفرد. فقد أدرك الرجل أن نجاحه اعتمد على القبول الشعبي، وهو ما بَرَع في بنائه، كما كان تأييد تصرفاته من أعلى المستويات الحكومية مُهِمًّا بالقدر ذاته، سواء تحت رئاسة الإدارات الليبرالية (الديمقراطية) أو المُحافِظة (الجمهورية)، وهو ما عمل جاهدا لضمانه وتأمينه. ومع ذلك، ساعدت براغماتية هوفر على كبح جماح غُلوِّه وأساليبه المتطرفة.
تُشير غيدج إلى أن هوفر تلقّى مساعدة كبيرة من الإجماع الذي شكَّل السياسة الأميركية في منتصف القرن الماضي، وارتكز على الحاجة إلى مواجهة التهديدات المحتملة للدولة بعد الحرب العالمية الثانية وفي مُستَهَل الحرب الباردة، التي تمثَّلت في المقام الأول في النازيين والشيوعيين والتشكيلات العصابية. وبعد عقدين من الزمان، حينما استهدف هوفر الطاعن في السن نشطاء حركة الحقوق المدنية، والمُحتَجين على حرب فيتنام، وغيرهم من راديكاليي الستينيات، غامر بالدخول إلى منطقة سياسية محل نزاع كبير إثر أفول الإجماع السياسي السابق تدريجيا. وحينئذ، لم تعد الدعوة إلى المبادئ الموضوعية مُسوِّغا لأفعاله بعد أن صارت تلك المبادئ نفسها محل جدال، لا سيما بعد أن بدأت الأساليب السرية البشعة التي انتهجتها المباحث تظهر إلى النور أمام العامة. وفي غضون سنوات قليلة من وفاة هوفر عام 1972، تلاشت الهالة غير السياسية التي أحاطت به، وتدمَّرت سمعته، وكذلك تدمَّرت مصداقية المؤسسة التي أنشأها.
في عصر ما بعد هوفر، طُبِّقَت إصلاحات في مكتب التحقيقات الفيدرالي جعلته مستقلا عن الأطراف السياسية، وأكثر انصياعا لحُكم القانون، وأكثر شفافية، وهي إصلاحات سَعَت إلى محو وصمة هوفر واستعادة الثقة الشعبية. ومع ذلك، اتُّهِم الجهاز بعد عقود في عهد “دونالد ترامب” بالتحيُّز السياسي إلى درجة كانت كافية لإثارة القلق حيال وجود أزمة شرعية في داخله. وقد وُجِّهت أولى الإدانات القوية للجهاز من مختلف الشخصيات على جانبي الطيف السياسي في البلاد، حينما أعلن مدير الجهاز “جيمس كومي” قراره ألا يوصي بإجراء محاكمة في قضية رسائل “هيلاري كلينتون” المُعقَّدة، ثمَّ إعادة فتح التحقيق في الأمر قبل 11 يوما فقط من سباق الرئاسة لعام 2016، ثم تبرئة كلينتون قبل الانتخابات بيومين فحسب. وتوالت بعدئذ ردود أفعال أخرى شديدة التحزُّب على تحقيقات المباحث في الكثير من أنشطة ترامب التي شابها الالتفاف على القانون.
هوفر وتأسيس العقل الأمني الأميركي
في يوليو/تموز 1919، عُيِّن هوفر البالغ من العمر 24 عاما آنذاك على رأس إدارة القسم المعني بالتطرُّف في مكتب التحقيقات التابع لوزارة العدل (كما عُرِف جهاز المباحث حينئذ). وهناك، استخدم هوفر موهبته في جمع وتصنيف كميات هائلة من المعلومات لبناء ملفات للمُشتَبَه في كونهم أناركيين واشتراكيين وشيوعيين، كما لعب دورا محوريا في الاعتقالات الجماعية المُشينة التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى بحق آلاف الشيوعيين المولودين خارج الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 1920. وكانت هذه “أكبر حماقة ارتكبها في شبابه” على حد وصف غيدج، فقد أغفل هوفر الإجراءات القانونية المُتَّبعة. وقد فشل نظام هوفر لبناء الملفات في العموم، فعلاوة على وقوع حالات خطأ في تحديد الهوية، تبيَّن أن عددا قليلا فقط من المتطرفين المُعتقلين حينها شكَّلوا تهديدا فعليا للدولة.
بيد أن هوفر لم ينجُ من تلك الحماقة فحسب، بل وسرعان ما حاز ما هو أكثر بكثير. ففي عام 1924، وفي ظل اتهامات بالفساد في مكتب التحقيقات، عُيِّن هوفر في عهد الرئيس “كالفِن كولِدج” في منصب مدير مكتب التحقيقات بالنيابة، وعلى عاتقه أوامر بجعل المنظمة احترافية ومهنية، والالتزام بنص القانون، وإنهاء المراقبة السياسية. وعلى مدار السنوات الثمانية التي تلت تعيينه، عمل هوفر على التأسيس لنفسه باعتباره تكنوقراطيا منضبطا يمكن الوثوق به، وحسَّن من كفاءة عملاء الجهاز، ولمَّع صورته في مجال الحريات المدنية، ورفع من خبرات الجهاز الفنية عبر تأسيس مركز تبادل معلومات البصمات الجنائية، ومعمل الطب الشرعي المتطور، وقسم إحصائيات الجريمة. وقد أتى دور الجهاز المتواضع نسبيا في إنفاذ القانون الفيدرالي في تلك الحقبة ليساعد في إنجاح مهمته، إذ إن الجهاز انخرط بالكاد في مشكلات الجريمة المنظمة، ولم يُسمَح لعملائه بحمل الأسلحة، كما تجنَّب التنصُّت على المكالمات الهاتفية وتعيين المخبرين، وغيرها من الأساليب البوليسية المُشدَّدة.
تغيَّر كل شيء بالنسبة لهوفر ومكتب التحقيقات بوصول الرئيس “فرانكلين روزفلت” إلى البيت الأبيض عام 1933. فقد دمج الرئيس الجديد كل الوكالات الحكومية المعنية بالتحقيق ووضع هوفر على رأسها، وجرى التصديق على سلسلة من القوانين الفيدرالية الجديدة استجابة للارتفاع الكبير في مُعدَّل جرائم العنف، ما نتج عنه تضخُّم في النطاق الذي استطاع الجهاز إجراء التحقيقات والتحريات فيه (هذا وأُعيدت تسمية الجهاز باسم “مكتب التحقيقات الفيدرالي” عام 1935)، وحينها منح الكونغرس صلاحيات لعملاء الجهاز بحمل السلاح وتنفيذ الاعتقالات. وعلى خلفية دعوات روزفلت إلى “بناء اتجاه لدى الرأي العام” يدعم “الحرب على الجريمة” التي شنَّها، سرعان ما بَرَع هوفر في جعل الصحافة والثقافة الشعبية أبواقا تنشر نجاحات جهاز المباحث الفيدرالية، ولم تكُن مجلة “رجال الحكومة” الرخيصة التي تضمَّن كل عدد منها خطابا لهوفر وحكايات “قضاياه الشهيرة” سوى بداية هذا الاتجاه. وحتى مع انتقاد هوفر العلني لبعض سياسات روزفلت، التي عُرِفَت بـ”الصفقة الجديدة”، فإن الرجل حقق إنجازا بتقديم نفسه وعملائه بوصفهم خبراء متخصصين وغير مُتحزِّبين وذوي كفاءة شديدة بما يليق بعصر “الصفقة الجديدة” نفسه.
في عام 1936، استدعى روزفلت هوفر للعمل مجددا في المراقبة السياسية، وهي خطوة حسمت مصير الرجل. في خضم انتشار الإضرابات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية، فإن الرئيس القلق آنذاك بشأن الأمن القومي، وبشأن إعادة انتخابه، طَلَب من مدير جهاز المباحث إجراء تحقيق سرِّي حول “الفاشية والشيوعية”. واقتنص هوفر الفرصة، ومن ثمَّ منح روزفلت لاحقا مباركته لتحقيقات الجهاز حول “المُخرِّبين” قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها. وقد بقي مدى توسع هوفر في مراقبة هذه الجماعات وتغلغله فيها طي الكتمان، لكن بعد غزو ألمانيا بولندا في سبتمبر/أيلول 1939، أعلن الرئيس الأميركي أن المباحث الفيدرالية كانت تسعى خلف الجواسيس والمخربين، وقال هوفر حينها أمام الكونغرس إنه جمع “مؤشرات شاملة” للأفراد والجماعات المرتبطة “بأي أنشطة من المحتمل أن يكون لها تأثير ضار أو مُدمِّر على الأمن الداخلي للولايات المتحدة”. وحينما بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي في اعتقال المتعاطفين مع النازية والشيوعية، أعرب المعارضون التقدميون والليبراليون عن إدانتهم لهذه الأفعال باعتبارها عودة غير مقبولة لعهد هوفر المُظلِم حينما أدار “قسم التطرُّف” في وزارة العدل.
بدأت المخاوف الشعبية حول الحريات المدنية في التراجع بعد الغزو الألماني لفرنسا في يونيو/حزيران 1940. أما هوفر، وقد تعلَّم الدرس عام 1920، فعمل جاهدا لتسويغ تحركاته قانونيا في وقت الحرب، حيث وطَّد علاقاته بقادة “الاتحاد الأميركي للحريات المدنية” و”الجمعية الوطنية للنهوض بالمُلوَّنين” (ذوي البشرة غير البيضاء عموما)*، وتعهَّد بالولاء لقضاياهم المتعلقة بالحقوق المدنية، كما عارض اعتقال الأميركيين من أصل ياباني ممن سكنوا منطقة الساحل الغربي (نتيجة الصراع بين اليابان والولايات المتحدة آنذاك)*، وأجرى تحقيقا حول عصابات البيض في الجنوب، التي نفَّذت إعدامات خارج نطاق القانون بحق الأميركيين ذوي الأصل الأفريقي، علاوة على أوامره بإلقاء القبض على عدد من المعارضين السياسيين. بحلول الأشهر الأخيرة من الحرب، “كان هوفر محبوبا من (المؤسسات الأميركية التي شكَّلتها) الصفقة الجديدة، واشتهر بكونه حامي الحريات المدنية، وقاهر النازيين والمخربين والعنصريين”.
وقد عَكَس هذا الحُكم الشعبي صلابة قبضة هوفر على ما عرفه العالم عن أنشطة المباحث الفيدرالية، إذ حرص هوفر على سرية أنشطته التجسُّسية على “الاتحاد الأميركي للحريات المدنية” و”الجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين”، بينما كان يتودَّد إليهم. وقلة قليلة فقط من أعضاء الحكومة كانت على عِلم بالتقارير الاستقصائية للجهاز التي كُتِبَت بطلب من روزفلت حول الممارسات الجنسية لمسؤولين حكوميين، بالإضافة إلى التقارير حول منتقدي الرئيس في وقت الحرب. هذا ولم يعرف عامة الشعب أن المباحث، التي صارت بحلول ذلك الوقت جهازا عملاقا، حازت قدرات جبَّارة في المراقبة سيستمر استخدامها بعد انتهاء الحرب.
الحرب الباردة.. مباحث هوفر تبسط أجنحتها
بعد الحرب، كان هَوَس هوفر الأكبر هو التهديد الشيوعي. وقد أوضحت غيدج أن اختراق السوفييت للحكومة الأميركية والمجتمع المدني كان أمرا حقيقيا وخطيرا في الأربعينيات والخمسينيات بالفعل. وقد ألقى هوفر خطابات شديدة اللهجة ضد مؤامرات الحزب الشيوعي، لكنه واجه عملية توازن أصعب لضمان التأييد الشعبي للطريقة التي اتَّبعتها المباحث. ففي البداية، وجد هوفر نفسه متهما بملاحقة الشيوعيين بسبب وبدون سبب على حد وصف العديد من الليبراليين والتقدميين. وقد عَلِم هوفر أكثر بكثير مما علمه الناس حول حجم المشكلة التي واجهت البلاد، إذ كانت لديه صلاحية الوصول إلى برامج استخبارات شديدة السرية كشفت أدلة حول الجواسيس السوفييت، وتفاصيل عن علاقة موسكو بالحزب الشيوعي الأميركي.
في مطلع عام 1950، ظهر عضو مجلس الشيوخ “جوزيف مكارثي” في المشهد المناهض للشيوعية، واتهم 205 أشخاص بكونهم أعضاء في الحزب الشيوعي أثناء عملهم بوزارة الخارجية الأميركية، وكان ذلك بمنزلة هدية من السماء لهوفر. لقد تتبَّع هوفر الشيوعيين سِرًّا بلا كلل، لكنه نظر إلى مكارثي، مع الاتهامات الكثيرة التي أطلقها بلا دليل حول الاختراق الشيوعي، باعتباره “تهديدا لقضية مناهضة الشيوعية” (بسبب تطرُّف مكارثي في ملاحقتهم وإقصائهم من الحياة السياسية ووَصْمِهم، وهي سياسة متطرفة عُرِفَت بالمكارثية)*.
ومن ضمن رغباته العديدة، طمح مكارثي في أن يكشف جهاز المباحث أسرارا عن شيوعيين بعينهم، وهو أمر عُدَّ خيانة للمصادر وفضحا للأساليب المُتَّبعة. وحينما رفض هوفر مُتحَجِّجا بأن المعلومات قد تُستخدَم “لتشويه سمعة أبرياء” وتثير مطاردات جائرة لكثيرين، أشاد الليبراليون والتقدميون بتكتُّمه وأسلوبه الاحترافي المهني. وحذا الرئيس “دوايت أيزنهاور” حذو هوفر في جهوده الناجحة للقضاء على مكارثي عام 1954، وذلك عن طريق لجوئه لهوفر بوصفه بديلا جديرا بالثقة لمناهضة الشيوعية. وقد كتبت غيدج: “في واحد من أكثر المشاهد الجدلية في التاريخ الأميركي، ظهرت عظمة هوفر بوصفها نُقطة التوافق الوحيدة (في السياسة الأميركية)”.
كان أفول نجم مكارثي لحظة التتويج لمجهودات هوفر التي دامت ثلاثة عقود لتأسيس مكتب التحقيقات الفيدرالي بوصفه مؤسسة فوق السياسة يمكن للشعب الاعتماد عليها في الحفاظ على أمن الأمة. وتُوضِّح غيدج المهارة الهائلة التي تطلَّبها الأمر للحفاظ على هذه الصورة وعلى دعم الحزبين الذي اقترن بها، وتشير إلى “درجة مذهلة من الفطنة والابتكار” أظهرها هوفر استجابة للتحديات المتغيرة المتعلقة بإنفاذ القانون وحماية الأمن القومي. وقد حافظ هوفر على إبقاء عملائه بعيدا عن المساءلة، وجعل وكالته في صدارة العلوم الجنائية والاستخباراتية، ونجح بذكاء في إقامة تحالفات مع الرؤساء ومع أعضاء داخل الكونغرس ومع الصحافة. وقد برع هوفر في انتقاء لحظات ضبط النفس، فقد تجاهل اتخاذ إجراءات يمكن أن تضع التأييد السياسي الذي يتمتع به في خطر، بينما أفصح عن احتجاجه صراحة حين اعتقد أن الطلبات الرئاسية للمعلومات الاستخباراتية السياسية السرية تجاوزت الحد، ناهيك بأنه حافظ على إطلاع المسؤولين وأعضاء الكونغرس البارزين على عملياته التي اخترقت الخصوصية (لكنه لم يطلعهم كثيرا على أساليبه المشبوهة قانونيا). هذا وأبقى هوفر على سرية تلك العمليات بعيدا عن الرأي العام الذي اعتمد هوفر على ثقته لاستمرار نجاحه.
في ستينيات القرن الماضي، انهار “الإجماع الأميركي الذي كان يوما ما مؤيدا” لهوفر “في الوقت الذي انقسمت فيه البلاد حول قضايا العِرق والحقوق المدنية، والقانون والنظام، والحرب في فيتنام”. وقد كان هوفر عنصريا طيلة حياته، ومع ذلك، “شنَّ حملات شرسة ضد أكثر العناصر المتطرفة النشطة من أجل الفصل العنصري في الجنوب، لا سيما جماعة “كو كلوكس كلان” العنصرية البيضاء الشهيرة. لقد كَرِه هوفر خرق القانون والفوضى أكثر من حبه للفصل العنصري في نهاية المطاف، بحسب ما خلصت إليه غيدج. وفي الوقت ذاته، سعى هوفر بصورة ملحوظة إلى حملات أشمل ضد قادة ونشطاء الحقوق المدنية، وتقصَّد مارتن لوثر كينغ بالذات على خلفية حصوله على دليل دامغ (غير مُفصَح عنه حتى اللحظة) بأن أحد مستشاري كينغ، وكذلك الرجل الذي أدار مكتب “مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية” التابع لكينغ في نيويورك، تربطهما علاقات سرية بالحزب الشيوعي. وأقنع هوفر الرئيس جون كِنيدي والنائب العام روبرت كِنيدي بأن يُحذِّرا كينغ من هذين الرجلين، لكن كينغ احتجَّ على الأمر في ظل غياب الأدلة.
انتظر هوفر حتى انتخاب “ليندون جونسون” عام 1964 كي يُوجِّه استدعاء لمارتن لوثر كينغ، وهو ما فعله بعد شهر من فوز الأخير بجائزة نوبل للسلام. وقال هوفر صراحة “لنادي الصحافة الوطني” النسائي آنذاك: “إنني أعتبر كينغ الكاذب الأشهر في البلاد”. وقد حثَّه أحد مساعديه المصدومين من تصريحه على محو هذه التصريحات من التسجيل، لكن هوفر شجَّع الصحافيين على النشر، فقد كان يتحرَّق شوقا للمواجهة، واعتقد أن لديه ما يُبرِّر الأمر. بيد أن تصريحه الصحافي سرعان ما تحوَّل إلى أكبر خطأ ارتكبه هوفر على الملأ منذ أيام عمله في “قسم التطرُّف”. وقد أعقبت التصريح عاصفة بالطبع. (وبعد أيام قليلة، بدأ جهاز المباحث حملته السرية ضد كينغ مُتَّبِعا أساليب الابتزاز ونشر الإشاعات، التي كان من الممكن أن تُسبِّب حربا ضروسا لو كُشف أمرها في حينه).
كانت الحركات الأشد احتجاجية مثل حركة الحقوق المدنية، واليسار الجديد، والمحتجين على حرب فيتنام، والقوميين السود، ذات علاقات ضعيفة -إن وُجِدَت- بالاتحاد السوفيتي، وحظي هؤلاء “المخربون” بتأييد جماهيري أوسع (منذ أواخر الستينيات) بالمقارنة مع المعارضين الذين سعى وراءهم هوفر يوما ما في شبابه. ومع ذلك، ومع انهيار النظام الاجتماعي، لاحقهم هوفر جميعا بضربات علنية وحملات سرية، بيد أن توفير الإجماع السياسي في هذا السياق كان أصعب بكثير حينذاك، إذ إن رؤية هوفر للتهديدات التي وجبت معالجتها كانت بعيدة كل البُعد عن التيار السائد في تلك اللحظة. وعندما بدأ الجانب السري الدنيء من أساليب المباحث في الظهور إلى العلن، لم يعُد يُجدي تودُّد هوفر لحلفائه في المؤسسات نفعا.
بحلول عام 1966، أصبح مدى المراقبة الإلكترونية التي أجراها هوفر واضحا تماما للشعب. كما كُشف الدافع السياسي من ورائها عام 1971، حينما صدرت الوثائق التي سُرقت من جناح “مكتب التحقيقات الفيدرالي” بمدينة “ميديا” في ولاية بنسلفانيا. وقد كشفت هذه الوثائق للمرة الأولى أن المكتب راقب وعطَّل وحيَّد نشطاء اليسار، وهو ما رأى فيه “الليبراليون واليساريون إيذانا بنَسْف ما تبقى من سمعة هوفر”. بعد وفاة هوفر فجأة في مايو/أيار 1972، “تلقَّى تأبينا من الحزبين في مشهد جليل” على حد وصف غيدج، وكان ذلك في الأساس تكريما لنجاحاته الأولى وسنوات خدمته الطويلة. ولكن بعد الاكتشافات الصادمة التي كشفتها تحقيقات “لجنة الكنيسة” عام 1975، التي حققت في ممارسات أجهزة الاستخبارات الأميركية المحلية، “برز هوفر باعتباره واحدا من أعظم الأشرار في التاريخ، بل وربما الشخصية السياسية الأميركية الأكثر إثارة للكراهية في القرن العشرين”.
ما بعد هوفر.. زمن الإصلاح
احتفظ جيمس كومي على مكتبه في غرفة مكتب المدير بنسخة من مذكرة صادرة في أكتوبر/تشرين الأول 1963 من صفحة واحدة، أرسلها هوفر إلى النائب العام كِنيدي سعى فيها إلى الحصول على موافقة لبدء المراقبة الإلكترونية لكينغ. كانت الأسباب الوحيدة المكتوبة في المذكرة هي اعتناق كينغ الماركسية (على حد قول هوفر)، وعلاقاته المحتملة بالتدخلات الشيوعية. وقد جعل كومي هذه المذكرة محور ندوة للمُستجَدين في المباحث الفيدرالية حول حملة الجهاز القاسية ضد كينغ، وغالبا ما تحدَّث عنها كومي مع زملائه، “فمن خلال التذكِرة والانفتاح والاعتراف بأخطائنا، فإننا بذلك نقلل من فرص تكرارها”، بحسب ما أوضح كومي في مذكرته الأولى.
كان جهاز المباحث في عهد كومي مختلفا تماما عما كان عليه في عهد هوفر. فقد حرصت الإصلاحات على مر السنين على اتباع المباحث لقوانين مُفصَّلة خاصة بالتحقيقات والمراقبة الإلكترونية، وأن يخضع لمراقبة المحاكم الفيدرالية، وهيئات مراقبة السلطة التنفيذية، ولجان الكونغرس المختلفة. هذا وأصبحت مدة مدير المكتب مُحدَّدة بعشر سنوات، وجرى التأسيس لعرف قوي يُلزِم المباحث بالحفاظ على استقلالية صارمة بعيدا عن الرئيس في الظاهر والباطن، وذلك للحفاظ على مصداقية الجهاز عندما تؤثر تحقيقاته في مصالح الإدارة.
رغم ذلك كله، لا يستطيع جهاز المباحث حتى اليوم الهروب من ظل هوفر، ومن الشكوك الدائمة في أن سلطته قد تفتقد إلى الشرعية. لقد ارتكب الجهاز أخطاء في تعامله مع فوضى رسائل هيلاري كلينتون واستمرار سلوكيات دونالد ترامب المشكوك فيها، ما كلَّفه مصداقيته أمام الناس. بيد أننا نكون قد أخطأنا جوهريا في فهم المأزق الذي تواجهه المباحث الفيدرالية إذا اعتقدنا أن هذه التحقيقات يمكن أن يُنظَر إليها بثقة أكبر لو تجنَّب الجهاز تلك الأخطاء (أي إنها في كُل الأحوال وثيقة الارتباط بالاتجاهات والتحيُّزات السياسية الحزبية في الولايات المتحدة، مما يجعلها محل مدح خلافا لأسباب سياسية منفصلة بالضرورة عن وقوع الخطأ التقني في التحقيقات من عدمه)*.
يفتقر جهاز المباحث الفيدرالية حاليا إلى أدوات هوفر لإدارة شرعية التحقيقات. فقد حافظ هوفر على هذه الشرعية بالأساس عبر عزل الجهاز عن أي تشكيكات خارجية من شأنها كشف تجاوزاته، وقدَّم خدمات للرؤساء وسياسيين آخرين دعموه في الضرَّاء. أما في عصر ما بعد هوفر، فيعمل الجهاز الملتزم بالقانون بعيدا عن السياسيين، وفي وجود أعين رقابة مُتربِّصة به في السلطة التنفيذية وفي الكونغرس. وفي ظل صحافة أقل طواعية بكثير مما كانت عليه في زمن هوفر، بات حفظ السرية أمرا أصعب، حيث تقوم تلك المؤسسات بالتمحيص في كل خطأ، وكثير منها يُعطَى أهمية أكبر مما يستحق، إذ يُنظَر إليها من خلال عدسة هوفر الشرير.
بالطبع تُشكِّل التحقيقات العلنية حول شخصيات سياسية بارزة التحدي الأصعب. وتُعَدُّ الاتهامات إلى الجهاز بالتسييس أمرا مفروغا منه دوما في تلك الحالات، وكذلك المخاطر السياسية المرتفعة الواقعة على عاتقه. ورغم أن هوفر تجسَّس على سياسيين، فإنه لم يُجرِ تحقيقا علنيا حول شخصية وطنية بارزة أبدا، بل بذل كل ما بوسعه لتجنُّب ذلك، إذ إن خطوة كهذه كان من شأنها تقويض التأييد السياسي الذي سمح له بالسعي وراء ما اعتبره تهديدات حقيقية للأمن القومي. اليوم، لا يستطيع جهاز المباحث بعد إصلاحه تجنُّب مثل هذه التحقيقات المثيرة للانقسام السياسي، فهو يتلقى إحالات من المُفتشين العموميين وضغوطا من الكونغرس والصحافة، كما أنه مُلزَم باتباع إرشادات النائب العام لتقييم ما إذا كان عليه المُضي قُدُما أم لا في تحقيق بعينه، وكيفية تنفيذ ذلك. وأيًّا ما كان القرار الذي يتخذه الجهاز، فإن نصف البلاد ستنظر إليه لا محالة باعتباره قرارا سياسيا. وليس هذا أمرا حديثا، فلنتذكَّر مثلا مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي “لويس فريه” وعلاقته المتقلِّبة بالرئيس “بيل كلينتون”. ثم هناك قضية “ووترغيت” الشهيرة، التي تكشَّفت وقائعها أثناء تحوُّل الجهاز بعيدا عن إرث هوفر، إذ سلَّطت القضية الضوء على مدى التغيير الذى جرى في جهاز المباحث بعد العمل الدؤوب الذي بذله، مدعوما بالتسريبات السياسية الصادرة عن نائب المدير “مارك فيلت”، وهي تسريبات شابهت للمفارقة بعض أساليب هوفر (بل ولم تَخلُ من علامات استفهام هي الأخرى بالنظر للعلاقة المتوترة بين فيلت من جهة ومدير الجهاز والرئيس نيكسون من جهة)*.
لم يكن مكتب التحقيقات الفيدرالي في موقف أصعب مما كان عليه في حقبة ترامب، إذ كره الكثير من الديمقراطيين الجهاز منذ عام 2016 على الأقل، حينما خلصوا إلى أن المؤسسة حاولت ترجيح كفة انتخاب ترامب، الذي أخطأ هو الآخر بالقدر ذاته حين ظنَّ أن الجهاز يعمل لإيقاف انتخابه. أما السنوات التالية من إدارة ترامب، التي استمر فيها التقريع غير المسبوق للجهاز، فإنها جعلت الجمهوريين في لحظة الاستقطاب الحالية يدخلون في نوبة جنون مناهضة للمباحث الفيدرالية، وفي حين يؤيد الديمقراطيون الجهاز حاليا، ليس مُرجَّحا استمرار ذلك في حال قدَّم أدلة على ارتكاب “هانتر بايدن”، نجل الرئيس الحالي، جرائم تُوجِب الإدانة.
تُعَدُّ جهود مكتب التحقيقات الفيدرالي خلال نصف قرن منذ وفاة هوفر للابتعاد عن السياسة جهودا ضرورية وجديرة بالإعجاب، فأميركا بحاجة إلى جهة فيدرالية لإنفاذ القانون، ووكالة محلية للاستخبارات تحظى بثقة على نطاق واسع وذات كفاءة ويمكن التعويل عليها لتأمين مواطنيها من التهديدات المتغيِّرة في الداخل والخارج، على غرار أي وكالة أمنية حول العالم. ولكن كما عرف مدير المباحث صاحب مدة الخدمة الأطول في تاريخ الولايات المتحدة بنفسه، فإن ترسيخ منظومة أخلاقية تسمو فوق السياسة لا يمكنها أن تكون بديلا عن تشكيل العلاقات الوطيدة فعليا مع أصحاب المناصب العُليا وضبط نظام السرية داخل الجهاز. ولعل شبح جون إدغار هوفر يبتسم أمام المفارقة الحاصلة الآن، إذ إن مكتبه الحبيب أصبح في غاية الاستقلال والانفتاح، إلى حدِّ أنه لم يعد يحظى بالثقة في زمن التحزُّب المُفرِط في أميركا اليوم.
__________________________________________
* ملاحظات المترجم
ترجمة: هدير عبد العظيم
هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.