الشاوي بالجزائر.. فسيفساء فنية للثورة والمديح الديني والأفراح | فن
الشاوي الأمازيغي حالة فنية فريدة، تتشكل عبر فسيفساء فنية بين الثوري والمديح الديني والفرح، وله “ذراع” فلكلورية تسمى “الرَّحَّابة”، وكلها لا تلتئم إلا في طابع غنائي واحد في الجزائر.
ذلك ما أكده فنانون جزائريون للجزيرة نت وهي تقتحم عالم “الطابع الشاوي” الأمازيغي الذي يعد من أقدم الألوان الغنائية بالجزائر، وكان أحد أسلحة الثورة ضد الاحتلال الفرنسي (1954-1962).
غناء الثورة
سطع نجم الأغنية الشاوية أكثر خلال الثورة التحريرية مع عميد الأغنية الشاوية عيسى الجرموني (1885-1946) بصوته المميز، وكلمات أغانيه ذات المعاني “المشفرة” بالنسبة للاحتلال ولشحذ همم شعبه.
وصل تحدي عيسى الجرموني للاستعمار إلى مسرح “الأولمبيا” في باريس، فكان مصيره “الطرد” بعد أن أدى أغنية “حنا الشاوية لا تقولو ذلوا، حنا جينا حواسة ونولوا” (نحن الشاوية لا يمكن أن تقولوا إننا أذلة، جئنا للسياحة ونعود إلى بلدنا)؛ دلالة على أن تنقله إلى باريس لم يكن بحثا عن العمل أو تخلّيًا عن الثورة، بل كان سائحا جاء من بلد إلى بلد.
معجزة القرن
وصف الفنان عبد الحميد بوزاهر عميدَ الأغنية الشاوية بـ”معجزة القرن”، وقال -للجزيرة نت- إن “الجرموني معجزة القرن الـ19 ولم يكن له شعر معين وكان أُمِّيًا، ويحكى لنا أنه كلما يستيقظ من النوم كان يجد أمامه كلمات أغنية مدونة وموزونة تعالج موضوعا معينا، ويقوم فقط بإعطائها لعازف القصبة (ناي خاص) ليؤديها”.
ومن بين أقوى الأغاني الثورية المستمدة من الطابع الشاوي بالجزائر والتي يُجهل حتى الآن مصدرها أغنية “جينا من عين مليلة” أو”جئنا من عين مليلة” (شرقي الجزائر)، والتي ودّع فيها مجاهدٌ أهله قبل استشهاده وتقدم باعتذاره لوالدته، وقد لخصت حجم المعاناة التي كان يعيشها الجزائريون مع الاحتلال الفرنسي، ومدى تمسكهم وإصرارهم على نيل استقلالهم، ومن كلماتها:
جئنا من عين مليلة
سبع أيام على رجلينا (سبعة أيام ونحن نسير على أرجلنا)
فرنسا تسركل علينا (فرنسا حاصرتنا)
أكل رجلينا والكرطوش يقطع صدرنا (الرصاص أصاب أرجلنا وقطع صدورنا)
جات الموت بلا دفينة (حضرت الموت من دون مراسم دفن)
والرجال تموت بلا دفينة (الرجال تموت بلا دفنها)
اسمحيلي يَا لميمة (سامحيني يا أمي)
نموت على وطني (أموت من أجل وطني)
في شهر رمضان لي فات سمعت سعيدة وبكات … قالت خويا لي مات (في رمضان الماضي سمعت سعيدة (اسم امرأة) وبكت … قالت أخي من مات)
ما تبكيش يا عينيا ما تبكيش على الشهيد ابكي على لحركي … باع دينو ولاحق الرومي أثيرحم ربي الشهداء (لا تبك يا عيوني على ابن الشهيد … ابك على الخائن الذي باع دينه والتحق بالأجنبي وخان وطنه).
يقول الفنان بوزاهر “إبان فترة الثورة التحريرية كان من بين مجاهدي الثورة (المحاربين) في عز المعارك من يقف لأداء أغنية حماسية لتشجيع المجاهدين وهم في قلب المعركة مع الاحتلال ويؤدي الأغنية بصوت جبلي نسميه السراوي بأدائه لأغانٍ وطنية لأجل رفع معنويات رفقاء دربه، كما كان المناضلون في مختلف القرى يؤدون هذا النوع من الأغاني الوطنية بكلمات شعبية وعامية محلية لتشجيع نضال الشعب من أجل مواصلة الكفاح لنيل الاستقلال”.
أصول قديمة
وعن أصول الطابع الغنائي الشاوي، أوضح بوزاهر (صاحب أطول مشوار فني دام 54 عاما) أنه “لم يكن مُدونا في العصور القديمة، فهذا الغناء جاء من معاناة الشعب وأفراحه وثوراته، ووصل إلى هذا الوقت عن طريق السمع بعد أن وُرّث من جيل إلى جيل، ولم يكن مدونا مثل الشعر الملحون، كما أن الاحتلال الفرنسي للجزائر طوال 132 سنة تدخّل لمنع تدوين كلمات الأغنية الشاوية”.
الموال الشاوي
وعن الموال الشاوي ذكر بوزاهر (أدى دور بطولة فيلم عيسى الجرموني عام 1983) أن أصعب المواويل كان يؤديها عيسى الجرموني، مضيفا أنه “كان قوة قاهرة وبكلمات مؤثرة، ولكلمات أغانيه عدة مفاهيم في القصيدة أو الأغنية، فهو كان يوحي بأنه كان يؤدي أغنية عن امرأة لكن الحقيقة أنه كان يغني عن بلد (الجزائر)”.
أما عقبة جوماطي الموسيقار والملحن والكاتب لأغان شاوية فيقول للجزيرة نت “إنه عند بدايات هذا الطابع الفني كان يسمى الموسيقى الأوراسية لأنها تمثل هذه منطقة الأوراس بكاملها، وكان الفنانون يؤدون الأغاني باللهجة العامية حتى يفهمها جميع الجزائريين”.
ويضيف أن الأغنية الشاوية الأصيلة تكون بـ”البندير” و”القصبة” والكلمة باللهجة الشاوية، وأشار إلى دخول هذا الطابع الغنائي مرحلة التطوير الموسيقي باستخدام آلات أخرى مثل العود في ثمانينيات القرن الماضي.
ولفت جوماطي إلى دور الفنان الراحل “كاتشو” في تشكيل فرقة غنائية أدخل فيها على الغناء الشاوي القيثارة الآلية وخلق نوعًا غنائيًّا مختلفًا بعضه باللهجة الشاوية وبعضه باللهجة العامية.
طابع الفرح
تحدث عقبة أيضا -للجزيرة نت- عن تحول الطابع الغنائي الشاوي إلى “عنوان للفرح”، وقال “بعد أن توليت زمام أمور الغناء الشاوي ركزت على أغاني الأفراح والأعراس، لأن الواقع يدفعنا إلى تتبع الجانب التجاري”.
أما زين الدين بلعيدي أستاذ الموسيقى بمحافظة باتنة (شرقي الجزائر) فتطرق إلى الخصوصيات الموسيقية لهذا الطابع، وذكر في حديث مع الجزيرة نت أنه “يحتوي على كل الأوزان الموسيقية، كما أنه يستعمل كل الألوان الموسيقية بما فيها المقامات الشرقية والغربية وحتى من السلم الخماسي”.
وأوضح “بالنسبة للطبوع مثل الطبع السيحلي أو الموال فقد وظفها الطابع الشاوي في الأغنية وخاصة في موسيقى عيسى الجرموني مثلا، فله عدة أغان بين طابع الموال والسلم الخماسي بالطبقة الصوتية الصحراوية، وله أيضا أغان بالمقامات الشرقية”.
ولفت إلى أن الطابع الشاوي يميز فقط منطقة الأوراس ويكون أساسًا بآلة “البندير”، مشيرا إلى أن الشاوي كان يعبر على كل الأحداث مثل الجرموني الذي غنى في كل المناسبات للثورة وللأفراح وحتى للوفاة وأخرى رثى بها أشخاصًا.
الكلمة الشاوية
الجزيرة نت حاورت أيضا الفنان ماسينيسا الذي يعد من أقدم الفنانين الذين يؤدون الشاوي باللهجة المحلية، ويرى أن من الطبيعي جدا الغناء باللهجة المحلية وليس بلغة أخرى، وأكد أنه من بين المدافعين عن الثقافة الشاوية بكل مكوناتها وكل ما هو أمازيغي وشمال أفريقي، وفق تعبيره.
واستطرد قائلا “ما يميز الطابع الشاوي قبل الإيقاع واللحن هي الكلمة”، معتبرا أن الأغنية التي تؤدى باللهجة الشاوية هي التي تمثل الأغنية الشاوية الحقيقية، مضيفا أن “الموسيقى ليست مهمة بقدر أهمية اللهجة أو اللغة في حد ذاتها”، ويُدرج ذلك في خانة الدفاع عن اللهجة المحلية ليكون لها مستقبل وحاضر كما قاومت البقاء منذ القرون السابقة، ويؤكد الفنان في تصريحه أن هدفه الفني هو “الحفاظ على الثقافة واللغة”.
وماسينيسا أيضا من أوائل فناني الشاوي الذين أدخلوا الآلات الموسيقية الحديثة على هذا الطابع الغنائي، فقد أبرز في تصريحه أنه أدخل آلات موسيقية عصرية واستعملت آلة القصبة معها، “كما استعملنا البندير أيضا، ولم نتخلّ عن هاتين الآلتين لأنهما تمثلان ختم الطابع الشاوي، وعند دمجهما مع آلات موسيقية عصرية ينتج عن ذلك نكهة موسيقية خاصة”، حسب قوله.