كرواتيا مودريتش.. الدولة التي لم يكن مقدرا لها النجاح!
لا نعتقد أن أحدا يعتبر كرواتيا، الدولة ذات الأربعة ملايين نسمة، التي نالت استقلالها عام 1991، دولة عظمى في كرة القدم. لكن حين نعلم أن تلك الدولة الصغيرة فازت بثلاث ميداليات خلال مشاركاتها الست في المونديال بداية من مونديال فرنسا 1998، وأن ألمانيا هي الدولة الوحيدة التي فازت بعدد ميداليات أكبر (أربع ميداليات)، فربما يفتح هذا مجالا للتفكير قليلا في الأمر، خاصة عندما يوجد لاعب واحد على الأقل من تلك الدولة الصغيرة في آخر 11 نهائيا لدوري الأبطال تواليا، رغم قلة وجود أيٍّ من فرقها المحلية في الأدوار المتقدمة للبطولة. (1)(2)(3)
لنزيدكم من الشعر بيتا؛ لا تنفق كرواتيا الكثير على كرة القدم بالشكل الذي يؤهلها لتحقيق الإنجازات. على سبيل المثال، لا تنفق زغرب أكثر من مليوني دولار سنويا على تطوير اللاعبين الشباب في البلاد، فيما يؤكد بوريس كوبلا، أحد المسؤولين في الاتحاد الكرواتي لكرة القدم، أن الدولة ينقصها الكثير عندما نتحدث عن المرافق والبنية التحتية للملاعب هناك. (4)(5)
لعلك تتساءل الآن؛ وهل مليونا دولار مبلغ قليل؟ وهو سؤال يبدو منطقيا للوهلة الأولى، لكن بمجرد أن تدرك أن الأندية الأوروبية الكبرى أنفقت في 2020 ما يساوي 870 مليون يورو على أكاديميات الشباب في بلادها، وأن إنجلترا قد تربعت على عرش تلك القائمة بـ6.1 ملايين يورو متوسطا لكل نادٍ، بالإضافة إلى إنفاق ألمانيا 80 مليون دولار سنويا على نظام تطوير اللاعبين الشباب الخاص بها، فحينها يبدو رقم كرواتيا أقرب إلى اللا شيء. (6)(7)
ما تنفقه إنجلترا على نادٍ واحد فقط يتجاوز ثلاثة أضعاف ما تنفقه كرواتيا على نظامها بالكامل، وما كانت تنفقه ألمانيا في عام واحد لم تنفقه كرواتيا في 10 أعوام! نعلم كم يصعب استيعاب ذلك، ونعلم كم يصعب استيعاب النتائج التي حققتها كرواتيا مع معطيات كتلك، لذا جئنا اليوم نتساءل: كيف حدث ذلك
الأمر يحتاج إلى دافنشي
لا داعي أن نحدثكم عن ليوناردو دافنشي، فالموناليزا تتحدث نيابة عنا، والتفاصيل التي اضطر دافنشي أن يهتم بها، كالمناظر الطبيعية ودرجات الألوان المختلفة، تتحدث أيضا، وربما لهذا السبب استغرق رسم اللوحة 4 أعوام كاملة. فاللوحة المتقنة تحتاج إلى مبدع، والمبدع يحتاج إلى الوقت، وهو ما ينطبق أيضا على عالم كرة القدم. (8)(9)
“كرة القدم مليئة بالمكوِّنين، الذين بدلا من أن يُكوِّنوا فإنهم يُشوِّهون!”.
(لاوريانو رويز)
هذا هو ذاته ما يخبرنا به لاوريانو رويز، المدرب السابق لبرشلونة في سبعينيات القرن الماضي. في المدرسة، لا يسعنا إنتاج نشء مُثقف ذي قيم ومبادئ حقيقية دون وجود معلمين ذوي جودة، تماما كما لا يسعنا أن نرسم لوحة فنية كالموناليزا دون عمل متقن ولمسة فنية، وكذلك الأمر في كرة القدم، من الصعب أن تنتج عددا من اللاعبين المميزين دون مدربين أكفاء. (10)
تكوين لاعب واحد فقط عملية مُرهقة، فما بالك بتكوين جيل كامل من اللاعبين؟ أمر شاق بالطبع، ويحتاج إلى إعداد كبير. إذا نظرنا لمعظم الدول الأوروبية التي تبنَّت مشروعات كروية طويلة الأمد -كألمانيا وإنجلترا على سبيل المثال لا الحصر- فسنجد بينهم جميعا عاملا مشتركا أساسيا وبارزا، وهو ببساطة تعليم المدربين، وهذا ما فعلته كرواتيا بالضبط.
“نمتلك مدربين على أعلى مستوى من الجودة في جميع المستويات والفئات”. (4)
بالعودة لبوريس كوبلا مرة أخرى، الذي يتحدث هذه المرة عن مدى تمرس النظام التدريبي داخل كرواتيا، مؤكدا أن ضعف البنية التحتية والظروف السيئة التي ينشأ بها اللاعبون لم تكن عائقا لهم، فقط لأنهم أعطوا الجانب الأهم حقه، وببساطة لم ينظروا تحت أقدامهم وواجهوا الواقع، لأنه إن كانت هنالك نية لإصلاح المنظومة، فيتعين البدء من العملية التكوينية. (4)
في كرواتيا، كما يؤكد كوبلا، لا يوجد أي مدرب لا يحمل رخصة تدريبية من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم “يويفا”، حتى في أصغر الفئات السنية، كما لا يوجد أي مدرب يعمل متطوعا، كل المدربين في كل القطاعات حتى في فئات الهواة يعملون بدوام جزئي أو كلي، وجميعهم يتلقون أجرا نظير عملهم. (4)
دينامو زغرب.. الصفوة!
رغم وجود الأندية الكرواتية في قاع الهرم الأوروبي عندما يتعلق الأمر بالبطولات الكبرى، أو حتى أدوارها الإقصائية الأولى، فإن كرواتيا تملك إحدى أفضل الأكاديميات بالقارة العجوز، وهي أكاديمية “دينامو زغرب”. لم تكن تلك مبالغة في الحقيقة، ففي 2011، صُنفت الأكاديمية من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بأنها واحدة من أفضل 6 أكاديميات لإنتاج المواهب الكروية داخل القارة، بجانب أرسنال (إنجلترا) وبرشلونة (إسبانيا) وإنتر ميلان (إيطاليا) وأياكس (هولندا)، بالإضافة إلى سبورتنغ لشبونة (البرتغال). (11)
في كأس العالم 2018 بروسيا، كان هناك 14 لاعبا من قوام المنتخب الكرواتي لعبوا لثلاث سنوات على الأقل في مسيرتهم بين عمر 15 عاما و21 عاما لدينامو زغرب، منهم 10 لاعبين نشأوا في أكاديمية النادي، على رأسهم -بالطبع- قائد المنتخب وأسطورة خط الوسط لوكا مودريتش. لم يسبق أن حقق أي نادٍ آخر هذين الرقمين في تاريخ المونديال، حتى برشلونة وأياكس أمستردام في كأس العالم 2010. (11) (12)
ربما يفسر ذلك ما قاله ساؤول إيزاكسون هيرست، وهو مدرب كرة قدم مختص في مرحلة التكوين الأساسية، ومتمرس لسنوات في أندية الدوري الإنجليزي الممتاز، الذي قضى 6 سنوات في أكاديمية توتنهام هوتسبير و4 آخرين في أكاديمية تشيلسي، بعد زيارته لأكاديمية دينامو زغرب، حيث أكد أنها قد تكون أكاديمية كرة القدم الأكثر دقة وتنظيما من حيث التعامل مع مراحل تطوير اللاعبين. (11)
لا نريد مجموعة من الرجال الآليين
تلك أيضا من كلمات كوبلا التي يشير من خلالها إلى أحد أهم أهداف الاتحاد الكرواتي في عملية تطوير اللاعبين. يؤكد كوبلا أن التمارين والتدريبات رغم فائدتها فهي تعزز الأتمتة، أي التحول إلى الروتينية على حساب الإبداع، لذا فهم يبحثون دائما عن طرق لجعل اللاعبين يفكرون، يتعرضون لسياقات مختلفة ويحاولون إيجاد الحلول لها بأنفسهم.
روميو يوزاك، الذي عمل مدربا بأكاديمية دينامو زغرب لسنوات طويلة، كما عمل لأربع سنوات أيضا مديرا للقسم التقني داخل أروقة الاتحاد الكرواتي، يؤكد هو الآخر ما قاله كوبلا؛ دائما ما تكون هناك فرصة للاعبين للإبداع والارتجال عندما توجد الكرة بحوزتهم دون قيود من مدربيهم، لا يوجد حد أقصى لعدد لمسات كل لاعب في كل مرة تكون الكرة بحوزته، مثلا؛ لمستان ومرر أو ثلاث لمسات ومرر. لا يوجد ذلك، فقط يتعلم اللاعبون بعض المبادئ الأساسية، ثم يُترك لهم ما تبقى. (4)(5)
ربما تلك المنهجية هي ما جعلت كرواتيا تمتلك أحد أقوى خطوط الوسط في العالم في وقتنا الحالي، ثلاثي وسط المنتخب المكون من لوكا مودريتش وماتيو كوفاسيتش ومارسيلو بروزوفيتش هو ثلاثي لا تملكه العديد من المنتخبات، ولا حتى أندية النخبة، يملك كلٌّ منهم قدرات استثنائية، كسياقة الكرة، والقدرة على المراوغة، واحتواء الضغط، وحماية الكرة، ودقة التمرير القُطري والبيني، والقدرة على كسر خطوط لعب الخصم، الناتجة بالضرورة عن رؤية محيطية مميزة. يمكن كتابة العديد من القصائد عن هذا الثلاثي الذي يُعَدُّ نقطة القوة الأبرز في المنتخب.
حتى البدلاء مثل باساليتش ونيكولا فلاسيتش ومايير وميلان باديلي، كلهم على قدر كبير من الإتقان على الكرة. لعب أربعة من الأسماء السبعة المذكورة بأكاديمية دينامو زغرب، تلك الأكاديمية التي قال إيزاكسون هيرست إنه لم يرَ في مسيرته التدريبية الطويلة بالأكاديميات أي أكاديمية مماثلة لها من حيث الاهتمام بالجانب التقني والفني للاعبين.
كي تصل إلى هذا المستوى، يجب أن تبدأ الرحلة مبكرا. في خطة تطوير الاتحاد الكرواتي للاعبين الصغار، يتبع المدربون منهجا متدرجا في تدريب الأطفال، فعندما يكون سن اللاعب من 8-10 سنوات، يتعلم لعب الكرة من الأساس؛ كيف يتحرك بالكرة وبدونها، وكيف يمرر ويتلقى الكرة، وتتطور الأمور مع تقدم العمر. ومع وصول الطفل إلى سن 11 أو 12 سنة وما بعد ذلك؛ تطبق أساليب أكثر تعقيدا وتمارين أصعب لتحسين الجوانب التكتيكية، مثل دفاع المنطقة وإتقان التحولات، وبدلا من لعب مباريات 4 ضد 4، نتحول إلى مباريات 6 ضد 6، حتى نصل إلى مرحلة اللعب في مباريات 11 ضد 11. (13)
في غضون ذلك، يولي الكروات أهمية كبيرة لكرة الشوارع وقيمتها في تنشئة اللاعبين على اتخاذ القرارات بشكل أفضل وأكثر جرأة أيضا، الأمر الذي أكده روميو يوزاك، مشددا أن كرة الشارع واتصال اللاعبين المستمر بالكرة منذ الطفولة يؤثر بشكل كبير على فهمهم للعبة في مراحل مبكرة جدا.
“عندما كنت صغيرا كنت أتمرن 3 إلى 4 ساعات أسبوعيا في أكاديمية أياكس، لكنني في المقابل كنت ألعب 3 إلى 4 ساعات يوميا في الشارع، فأين تظنون أنني تعلمت لعب الكرة؟”.
(أسطورة الكرة الهولندية يوهان كرويف) (5)
للأسباب السالف ذكرها، ورغم الإمكانيات المادية المتواضعة مقارنة بباقي الدول، فإن المنتخب الكرواتي موجود بصفة مستمرة في دائرة المنافسة مع الكبار، وما حدث في مونديال روسيا (والآن في قطر) لم يكن مصادفة عابرة أو إنجازا وقتيا، حتى إن بوريس كوبلا اعترض بشدة على العبارات التي تقضي باستفادة كرواتيا من جيل ذهبي لا يتكرر كثيرا في روسيا 2018.
يلفت كوبلا النظر إلى ما سمَّاه “خط إنتاج اللاعبين” في كرواتيا، فرغم أن قوام المنتخب الذي تأهل لنهائي مونديال روسيا قد يحمل العديد من الأسماء المتشابهة مع أصحاب برونزية مونديال قطر، فإن هناك اختلافات في عدة مراكز؛ كالظهير الأيمن يورانوفيتش، والحارس ليفانكوفيتش، وجوسيب غفارديول صاحب الـ20 ربيعا الذي يُعَدُّ أحد أفضل المدافعين الصاعدين حاليا في أوروبا. تلك الأسماء أضفت جانبا دفاعيا أقوى في نسخة قطر 2022، حيث لم تستقبل كرواتيا سوى ثلاثة أهداف فقط قبيل نصف النهائي، هذا أقل مما استقبلته فرنسا والأرجنتين -طرفا النهائي- في عدد المباريات نفسه. (4)
الكرة كـ”لعبة ذهنية”
كثيرا ما نسمع تلك الجملة، ويشار بها إلى لحظات مثل هدف كيليان مبابي الثاني ضد الأرجنتين في نهائي المونديال، لا يخفى على أحد أن مبابي قبل هذا الهدف لم يكن يلعب أفضل مبارياته، ولكن ما يميز مبابي، خاصة في تلك اللحظة، هو الحضور الذهني القوي، الذي مكَّنه من التركيز بشكل كافٍ لركل الكرة بالدقة والقوة اللازمتين لتسجيل الهدف، رغم المباراة المتواضعة التي لعبها لمدة 70 دقيقة وأكثر رفقة زملائه.
دعنا من مبابي، لا يتعلق الأمر به هنا، وإنما يتعلق بما يجعله -ويجعل منتخب كرواتيا أيضا- حاضرا بقوة في المواعيد الكبرى؛ وهو العامل الذهني. حينما يتعلق الأمر بكرواتيا، فللأمر عدة جوانب؛ كالحرب مثلا (نعني هنا حرب الاستقلال الكرواتية بين عام 1991-1995)، التي تحدث عنها مودريتش وقال إنها أسهمت في تكوين عقليته بشكل كبير، وتسببت بوجه عام في تكوين جيل رياضي بعقلية حديدية، وهذا لم يقتصر على كرة القدم فقط، بل على العديد من الرياضات أيضا؛ كالتنس والتزحلق على الجليد والوثب العالي والتجديف. (14)
بحسب إيغور شتيماك، لاعب المنتخب السابق في مونديال 1998، فإن الرياضة، وتحديدا كرة القدم، هي الطريقة التي يوجِّه بها الكروات رسالتهم للعالم أجمع بأنهم موجودون على الساحة، وفخر للدولة وشعبها العاشق لكرة القدم، وهو ذاته ما يشير إليه روميو يوزاك، بقوله: “إنها فرصة لنُظهر للعالم أننا موجودون. الرياضيون خير سفراء لنا، يُعَدُّ تمثيل كرواتيا مصدر إلهام وفخر كبير للجميع”. (14)
ماذا بعد؟
ربما راودك هذا السؤال وأنت تقرأ، والإجابة هي أن الأوان قد آن أخيرا لتحسين البنية التحتية لكرة القدم في البلاد، حيث تخطط البلاد لبناء 100 ملعب قبيل عام 2023، وتحسين مرافق اللعبة التي ظلت متأخرة مقارنة بسائر الدول الأوروبية. (15)
لا تعترف كرة القدم بالمنطق طوال الوقت، كرواتيا خير مثال على ذلك. إذا نظرنا للأمر بحسابات مجردة، فربما لم يكن من المفترض أن نرى الكروات في المكان الذي يوجدون به حاليا؛ دوما ما يصارعون الكبار في حين أنهم متأخرون عنهم كثيرا من حيث العديد من التجهيزات والإمكانيات. لكن في مواجهة نقص الإمكانات، امتلك الكروات فائضا كبيرا في الدوافع، لهذا لم يغيبوا عن أي مناسبة كبرى للمنتخبات منذ 1998 سوى مرتين فقط من أصل 11 هما يورو 2000 ومونديال 2010، ولهذا أيضا نجحوا في حجز مكانهم الدائم بين الصفوة رغم كل شيء.
___________________________________________
المصادر: