مكتبة نابلس العامة.. رائدة العلم والثقافة وأيقونة التاريخ | ثقافة
نابلس- في لقاء يوم الاثنين من كل أسبوع، يجتمع زهير الدبعي مع أصدقائه وأبناء جيله المتقاعدين من باحثين وأطباء وتربويين وغيرهم، ويتداولون آخر الأخبار أو يطرحون كتابا للنقاش فيما بينهم.
في عام 2013، قام الدبعي ومن معه بتشكيل “جلسة الاثنين”، واختاروا مكتبة بلدية نابلس مكانا لذلك، مستمدين من عمق ثقافتهم وارتباطهم بالمكتبة ومحتواها العريض نشاطهم وثباتهم، ومستحضرين تجربة الماضي حين كان رجالات المدينة -قبل أكثر من قرن- يلتقون هناك ويتباحثون شؤونهم المختلفة.
لكن ارتباط الدبعي بالمكتبة يعود لعام 1969، حين جاءها باحثا، ليصير شبه مقيم فيها الآن، فهو نَهمٌ للقراءة لدرجة جعلته يحوز 3 آلاف كتاب في مكتبته الخاصة ببيته.
ومع ذلك، يرتبط ورفاقه بمكتبة بلدية نابلس “ارتباط الغصن بالشجرة”، كما يقول الدبعي للجزيرة نت بينما يجلس متوسطا لفيفا من أقرانه بحديقة المكتبة الذين عقد وإياهم أكثر من 300 لقاء وفعالية فيها حتى الآن.
والمكتبة كما يصفها الدبعي “وجهة ثقافية” عامرة بالمعرفة والذاكرة والإبداع، وهي حصيلة مهمة يحتاجها كل فلسطيني لمواجهة المشروع الصهيوني وروايته الطافحة بالكذب.
ولذا، أصبحت الذاكرة والمعلومات التي مصدرها الكتب “ضرورة لا بد نقلها للأجيال القادمة بنجاحها وفشلها، حتى لا يعيدوا إنتاج فشلنا، وهو ما يعرف بتنشيط الذاكرة الجماعية”، بحسب الدبعي.
بين أصالة المكان وغزارة المحتوى
عام 1960، أعلن عن تأسيس مكتبة بلدية نابلس العامة بقرار من المجلس البلدي برئاسة الدكتور أحمد السروري، واختير المبنى العثماني القديم المُشيّد عام 1909 في حديقة المنشية بشارع الشويترة وسط المدينة ليكون مقرا لها، وافتتحها في العام نفسه الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال.
وقبل ذلك، كان المبنى مقرا لبلدية نابلس حتى عام 1951، وشكَّل المكان رئة لأهالي المدينة ومقرا للقاءاتهم، وكان مقرا لحامية نابلس عام 1948، وناديا للضباط ومقرا للإخوان المسلمين ودارا للسينما.
وساهمت المكتبة في التصدي للمشروع الصهيوني الهادف لاختراق الذاكرة الفلسطينية وتزييف الهوية، لذلك عمد الاحتلال للتصدي لهذا الدور، فمنع إدخال الكتب إليها من الخارج وخاصة الفكرية والسياسية والقضية الفلسطينية والمقاومة، وبالتالي قلَّ تنوعها، وداهمها وصادر العديد من كتبها مرات عدة وخاصة خلال اجتياح المدينة عام 2002، وفق ما يقول القائمون عليها.
وافتتحت المكتبة بألف كتاب تبرع بها أهالي المدينة وموظفو البلدية عند تأسيسها لتضم الآن أكثر من 120 ألف كتاب، فضلا عن أرشيف ضخم ومراجع ومصادر تشكل ثروة علمية وثقافية هائلة لنابلس ولرواد المكتبة الذين يأتون “من كل البقاع الفلسطينية”، كما يقول ضرار طوقان مدير المكتبة.
وتشكل المراجع 15% من تلك الكتب، إضافة إلى مليوني وثيقة مهمة منذ تأسيس بلدية نابلس عام 1869 خلال العهد العثماني وما تلاها من حقب، إضافة لعدد لا بأس به من المخطوطات.
ويصبح الكتاب مخطوطة بعد مرور 100 عام كما تقول القاعدة. ويقول طوقان -وهو رابع من يتولى إدارة المكتبة منذ تأسيسها، بعد: عبد المنعم الفران، وعلي طوقان، وبشار التمام- إن المخطوطات ربما تصل نسبتها إلى 5% من محتوى المكتبة.
مراجع وأرشيف ضخم
وبين أدوار ثلاثة تتوزع المكتبة بكنوزها، في مبنى تصل مساحته لنحو ألف متر مربع، وحديقة على الطراز العثماني تتوسطها بركة ماء خماسية الشكل، ويقع في الدور الأول القاعة الرئيسية وفيها قسم الإعارة وركن المطالعة، وخصص الثاني للمراجع، بينما احتوى الثالث على وحدة الأرشيف والوثائق والدوريات.
ثمة مكتبات متخصصة داخل المكتبة العامة، كمكتبة الطفل والمجموعة الفلسطينية الخاصة والرسائل العلمية، إضافة إلى “مكتبة الأسرى”، والمكتبات المهداة وبعضها من علماء نابلس ومثقفيها، كمكتبة المفكرين الراحلين قدري طوقان وعادل زعيتر، وجميعها تشكل ما نسبته 10% من الكتب.
ويضاف لذلك المجلات الدورية والصحف والمنشورات، كمجلة “الوقائع الفلسطينية” (1868-1948)، والصحف القديمة مثل “فلسطين” و”الدفاع”، والحديثة مثل “القدس” و”الحياة” و”الأيام”، وفي المكتبة أيضا قسم خاص بالخرائط التاريخية والسياسية لفلسطين، وأكثر من ألفي شريحة فلمية (ميكروفيلم) تحوي كما هائلا من الوثائق والصور.
زيارات
عام 1996 زار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات المكتبة رفقة زوجته سهى، وفي مطلع القرن 21 زارها الكاتب السعودي سعود السنعوسي، والمؤرخ الأردني الدكتور بكر خازر المجالي، والروائي الجزائري واسيني الأعرج وغيرهم.
وفي الدور الثالث -حيث الموقع الأهم في المكتبة- يوجد أرشيف ضخم، ويجتهد الشاب محمد خلفة بترتيب المكان، فمن قريب أعادوا ترميم الغرف وتهيئتها لضم هذا المحتوى الضخم.
مضى على عمل خلفة في المكتبة 26 عاما، جزء منها في قسم الأرشيف والتوثيق، لذا فهو يستدل بسرعة -كما يقول للجزيرة نت- على كل ما يحتاجه السائل، ويعرف جيدا قيمة ما يقف عليه.
وخلفة واحد من نحو 30 موظفا بعضهم يحمل شهادات عليا، يقومون على خدمة زوّار المكتبة التي تعد من أكبر وأضخم المكتبات العامة في فلسطين وأقدمها.
تعزيز الوعي ومواكبة التطور
وغير بعيد عن خلفة وحيث كتب اللغات بأنواعها المختلفة الروائية والعلمية، تمكث طالبة الطب الشابة ربى مخلوف، وتحمل بين أصابعها رواية أجنبية صغيرة، وتقول إنها تحب القراءة باللغة الإنجليزية فهي تقوي لغتها ومعلوماتها وتستمتع بجمالها القصصي.
واعتادت مخلوف خلال عطلتها الأسبوعية القدوم للمكتبة، وممارسة القراءة، وهي تقول للجزيرة نت “اعتدنا للأسف أن نقرأ من أجل العلامة، وليس للمعرفة”.
وفضلا عن خدماتها التقليدية من الإعارة والإرشاد وغير ذلك، يسعى القائمون على المكتبة لتطوير أنفسهم ومعلوماتهم حول عالم الكتب والتعريف بالمكتبة وتوسيع نشاطها، باستضافة طلبة المدارس والجامعات وعقد الندوات والمؤتمرات الثقافية وغير ذلك.
وسعيا في التطور المنشود، عمدت المكتبة لإعداد قائمة بريدية تعزز تواصلها مع المؤسسات المختلفة، كما تبث مجلة إلكترونية شبه دورية تطلع بها جمهورها على آخر الأخبار والإصدارات.
لكن التطور الأكبر -كما يصفه مدير المكتبة ضرار طوقان- يتجه نحو “المكتبة الإلكترونية” الشاملة، إذ يقول إنهم لخصوا غالبية الكتب وستوضع فيها إضافة للأرشيف والوثائق، “لكن بتكامل مع المكتبة الورقية ودون إهمالها”.
التكنولوجيا ومواكبتها بالسرعة المطلوبة تعد أبرز ما تواجهه مكتبة بلدية نابلس العامة من تحديات، ولا سيما أن ذلك سيخدم رواد المكتبة الذين تجاوز عددهم 8 آلاف زائر في يوليو/تموز الماضي، ويساهم في خلق حالة من الوعي أمام محاولات الاحتلال الساعية لتدمير وتحريف الرواية الفلسطينية.